قصة سيدنا محمد كامله مكمله ونسبه
نسب النبي صلى الله عليه وسلم
«الصادق المصدوق»
ولد محمد صلى الله عليه وسلم من أسرة زكية المعدن نبيلة النسب، جمعت خلاصة ما في العرب من فضائل، وترفعت عما يشينهم من معائب. ويرتفع نسبه صلى الله عليه وسلم إلى نبي الله إسماعيل بن خليل الرحمن إبراهيم عليهما السلام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". واسم رسول الله صلى الله عليه وسلم: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. نسب النبي صلى الله عليه وسلم وأسرته: لنسب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء: جزء اتفق على صحته أهل السير والأنساب وهو إلى عدنان، وجزء اختلفوا فيه ما بين متوقف فيه وقائل به، وهو ما فوق عدنان إلى إبراهيم عليه السلام، وجزء لا نشك أن فيه أمورا غير صحيحة، وهو ما فوق إبراهيم إلى آدم عليه السلام. الجزء الأول : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ـ واسمه شيبة ـ بن هاشم ـ واسمه عمرو ـ بن عبد مناف ـ واسمه المغيرة ـ بن قصي ـ واسمه ـ زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر ـ وهو الملقب بقريش وإليه تنتسب القبيلة ـ بن مالك بن النضر ـ واسمه قيس بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ـ واسمه عامر ـ بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. الجزء الثاني ـ : ما فوق عدنان ،وعدنان هو ابن أد بن هميسع بن سلامان بن عوص بن بوز بن قموال بن أبي بن عوام بن ناشد بن حزا بن بلداس بن يدلاف بن طابخ بن جاحم بن ناحش بن ماخي بن عيض بن عبقر بن عبيد بن الدعا بن حمدان بن سنبر بن يثربي بن يحزن بن يلحن بن أرعوي بن عيض بن ديشان بن عيصر بن أفناد بن أيهام بن مقصر بن ناحث بن زارح بن سمي بن مزي بن عوضة بن عرام بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام . الجزء الثالث : ما فوق إبراهيم عليه السلام، وهو ابن تارح ـ واسمه آزر ـ بن ناحور بن ساروع ـ أوساروغ ـ بن راعو بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ـ عليه السلام ـ بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ ـ يقال هو إدريس عليه السلام ـ بن يرد بن مهلائيل بن قينان بن آنوشة بن شيث بن آدم عليهما السلام.
»
عبد المطلب زعيما لقريش
تولى هاشم بن عبد مناف سقاية الحجاج وإطعامهم (الرفادة)، كان هاشم موسرا ذا شرف كبير وهو أول من أطعم الثريد للحجاج بمكة ،وكان اسمه عمرو، وسمى هاشما لهشمه الخبز للناس وإطعامهم في سنة مجدبة، وهو أول من سن الرحلتين لقريش رحلة الشتاء ورحلة الصيف، ومرت الأيام وتولى عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة، وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون لقومهم وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه ، وأحبه قومه.
»
حفر بئر زمزم »
بينما عبد المطلب نائم في حجر الكعبة إذ أتاه هاتف يأمره بحفر زمزم يقول عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال: احفر طيبة. قلت: وما طيبة؟ ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة. فقلت: وما المضنونة؟ ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر زمزم. قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقى الحجيج الأعظم (أي أن ماءها لا ينتهي أبدا) ولما بين له شأنها ودله على موضعها وعرف أنه قد صدق، أصبح بمعوله ومعه ابنه الحارث، ليس له يومئذ ولد غيره، فحفر فيها، فلما بدا لعبد المطلب الحجارة التي تغطي البئر كبر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقا، فأشركنا معك فيها. قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، فقالوا له: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها. قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد هذيم، قال: نعم، وكانت على حدود الشام، فركب عبد المطلب ومعه جماعة من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش جماعة، والأرض إذ ذاك صحراء لا نهاية لها، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك الصحراء بين الحجاز والشام فني ماء عبد المطلب وأصحابه؛ فظمئوا حتى أيقنوا بالهلاك، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم وقالوا: إنا بمفازة (أي صحراء) ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم، وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك، فمرنا بما شئت. قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة؛ فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخركم رجلا واحدا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة القافلة جميعا. قالوا: نعم ما أمرت به. فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا. ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الأرض (أي لا نسير لطلب الرزق) ولا نبتغى لأنفسنا لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد؛ ارتحلوا، فارتحلوا، حتى إذا فرغوا ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما قامت به انفجرت من تحت خفها عين من ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه وملأوا أسقيتهم. ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلم إلى الماء فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا، فجاءوا وشربوا واستقوا ثم قالوا: قد والله قضي لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبدا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا! فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين زمزم. وعندئذ نذر عبد المطلب: لئن ولد له عشرة نفر، ثم بلغوا معه حتى يمنعوه (أي حتى يكبروا ويحموه) لينحرن أحدهم لله عند الكعبة.
نجاة عبدالله والد النبي صلى الله عليه وسلم من الذبح
كان عبد المطلب بن هاشم، قد نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم، لئن ولد له عشرة نفر، ثم كبروا حتى يحموه، لينحرن أحدهم لله عند الكعبة، فلما تكامل بنوه عشرة وعرف أنهم سيمنعونه، جمعهم ثم أخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك، فأطاعوه، فكتب أسماءهم في القداح (وهي عصي كانوا يقترعون بها عند آلهتهم) واقترع فخرج القدح على عبدالله ،فأخذه عبد المطلب وأخذ الشفرة ثم أقبل به إلى الكعبة ليذبحه، فمنعته قريش ولاسيما أخواله من بنى مخزوم وأخوه أبو طالب، فقال عبد المطلب: فكيف أصنع بنذري؟ فأشاروا عليه أن يأتي عرافة فيستشيرها، فأتاها فأمرت أن يضرب القداح على عبدالله وعلى عشر من الإبل، فإن خرجت على عبدالله يزيد عشرا من الإبل حتى يرضى ربه، فإن خرجت على الإبل نحرها، فرجع وأقرع بين عبدالله وبين عشر من الإبل فوقعت القرعة على عبدالله ،فلم يزل يزيد من الإبل عشرا عشرا ولا تقع القرعة إلا عليه إلى أن بلغت الإبل مائة فوقعت القرعة عليها، فنحرت عنه ثم تركها عبد المطلب لا يرد عنها إنسانا ولا سبعا، وكانت الدية في قريش وفي العرب عشرا من الإبل فأصبحت بعد هذه الوقعة مائة من الإبل، وأقرها الإسلام بعد ذلك، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "أنا ابن الذبيحين" يعنى نبي الله إسماعيل وأباه عبدالله.
وقعة أصحاب الفيل
كان أبرهة الصباح الحبشي النائب العام عن النجاشي على اليمن، فلما رأى العرب يحجون الكعبة بنى كنيسة كبيرة بصنعاء سماها القليس، وأراد أن يجعل حج العرب إليها، وسمع بذلك رجل من بني كنانة فدخلها ليلا فقضى حاجته فيها امتهانا لها، ولما علم أبرهة بذلك ثار غيظه، وسار بجيش عرمرم، عدده ستون ألف جندي، إلى الكعبة ليهدمها، ومعهم ثلاثة عشر فيلا، واختار أبرهة لنفسه فيلا من أكبر الفيلة، وهزم كل من حاول الوقوف أمامه من قبائل العرب، وواصل سيره حتى بلغ المغمس وهناك عبأ جيشه ،وهيأ فيله، ثم بعث بعض رجاله إلى مكة فاستولوا على الأغنام والإبل التي وجدوها، وكان فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم كبير قريش وسيدها. بعدها بعث أبرهة أحد رجاله إلى مكة وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفها، ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تتعرضوا لي فلا حاجة لي في دمائكم. فلما قال ذلك لعبد المطلب قال له: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه منه فهو حرمه، وإن يخل بينه وبينه فوالله ماعندنا دفع عنه، فقال له رسول أبرهة: فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك، فذهب إليه مع بعض أبنائه، وكان عبد المطلب وسيما جميلا مهابا، فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه، ونزل عن كرسيه وجلس بجانبه على الأرض، ثم قال له: ما حاجتك؟ فقال عبد المطلب: حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي، فقال أبرهة: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني! أتكلمني في مائتي بعير أخذت منك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لأهدمه لا تكلمني فيه؟ قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه! قال أبرهة: ما كان ليمتنع مني، قال: عبد المطلب أنت وذلك. فلما أخذ عبد المطلب إبله عاد إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحصن بالجبال خوفا عليهم من الجيش، ثم قام عبد المطلب يدعو الله ويستنصره ومعه جماعة من قريش، ثم لحقوا بقومهم في الجبال ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها. وتهيأ أبرهة لدخول مكة ، فلما كان بين المزدلفة ومنى برك الفيل ،ولم يقم ليقدم إلى الكعبة ،و كانوا كلما وجهوه إلى الجنوب أو الشمال أو الشرق يقوم يهرول ، وإذا صرفوه إلى الكعبة برك، فبينا هم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيرا أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول وكانت الطير أمثال الخطاطيف والبلسان (الخطاف طائر أسود، والبلسان: الزرزور) مع كل طائر ثلاثة أحجار ،حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص ،لا تصيب منهم أحدا إلا صار تتقطع أعضاؤه وهلك، وخرجوا هاربين يموج بعضهم في بعض فتساقطوا بكل طريق وهلكوا علي كل منهل، وأما أبرهة فبعث الله عليه داء تساقطت بسببه أنامله (أي أصابعه) ولم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل الفرخ، وانصدع صدره عن قلبه ثم هلك . وأما قريش فكانوا قد تفرقوا في الجبال خوفا على أنفسهم من الجيش، فلما نزل بالجيش ما نزل رجعوا إلى بيوتهم آمنين.
وفاة عبد الله والد الرسول صلى الله عليه وسلم»
اختار عبد المطلب لولده عبدالله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب وهي يومئذ تعد أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا، وأبوها سيد بنى زهرة نسبا وشرفا، فتزوجها عبدالله في مكة وبعد قليل أرسله عبد المطلب إلى المدينة يشتري لهم تمرا،فدخل المدينة وهو مريض، فتوفي بها ودفن في دار النابغة الجعدي، وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، وكانت وفاته قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما بلغ نعيه إلى مكة رثته آمنة بأروع الأشعار. وجميع ما خلفه عبدالله خمسة جمال وقطعة غنم ،وجارية حبشية اسمها بركة وكنيتها أم أيمن، وهي حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم
ولد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم بشعب بنى هاشم بمكة في صبيحة يوم الإثنين التاسع من شهر ربيع الأول ،لأول عام من حادثة الفيل ولأربعين سنة خلت من ملك كسرى أنوشروان ،ويوافق ذلك العشرين أو الثاني والعشرين من شهر إبريل سنة 571 م (إحدى وسبعين وخمسمائة). ويقال إن آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تحدث: أنها أتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد! ثم سميه محمدا. ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض الشام. وقد روي أن إرهاصات بالبعثة قد وقعت عند الميلاد فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى وخمدت النار التي يعبدها المجوس وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت (أي جف ماؤها) استقبل "عبد المطلب" ميلاد حفيده باستبشار، ولعله رأى في مقدمه عوضا عن ابنه الذي توفي في ريعان شبابه، فحول مشاعره عن الراحل الذاهب إلى الوافد الجديد يرعاه ويغالي به. ومن الموافقات الجميلة أن يلهم "عبد المطلب" تسمية حفيده "محمد". إنها تسمية أعانه عليها ملك كريم. ولم يكن العرب يألفون هذه الأعلام، لذلك سألوه لم رغب عن أسماء آبائه؟ فأجاب: أردت أن يحمده الله في السماء، وان يحمده الخلق في الأرض، فكأن هذه الإرادة كانت استشفافا للغيب، فإن أحدا من خلق الله لا يستحق إزجاء عواطف الشكر والثناء على ما أدى وأسدى كما يستحق ذلك النبي العربي المحمد.
الرضاعة
أول من أرضعت الرسول صلى الله عليه وسلم من المراضع بعد أمه كانت ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها يقال له مسروح، و كانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب وكانت العادة عند أهل الحضر من العرب (خلاف البدويين) أن يلتمسوا المراضع لأولادهم، ابتعادا لهم عن أمراض المدن؛ لتقوى أجسامهم، وتشتد أعصابهم، ويتقنوا اللسان العربي في مهدهم ، فالتمس عبد المطلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم المرضعات، واسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر ـ وهي حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية ـ وكان زوجها الحارث بن عبد العزى المكنى بأبي كبشة من نفس القبيلة . وإخوته صلى الله عليه وسلم هناك من الرضاعة عبدالله بن الحارث وأنيسة بنت الحارث، وحذافة أو جذامة بنت الحارث (وهي الشيماء) وكانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ،ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رأت حليمة من بركته صلى الله علية وسلم ما عجبت منه أشد العجب . كانت حليمة تحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها صغير ترضعه، في نسوة من بني سعد لجلب الرضعاء، وذلك في سنة مجدبة شديدة، خرجت على أنثى حمار بيضاء، ومعهم ناقة ليس فيها قطرة لبن، وأنهم لم يناموا طوال الليل من بكاء الصبي من الجوع، وليس في ثديها ما يكفيه، وما في الناقة ما يغذيه، وبسبب ضعف الأتان التي كانت تركبها حليمة فقد تأخرت عن باقي المرضعات حتى ضايقهم ذلك، حتى قدموا مكة، فما منهن امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أن كل واحدة منهن كانت ترجو المعروف من أبي الصبى، فكانت تقول: يتيم! وما عسى أن تصنع أمه وجده!. وفي نهاية اليوم لم تبق امرأة ليس معها رضيع، إلا حليمة، فلما هموا بالانصراف قالت حليمة لزوجها: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه! قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبت إليه فأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره فلما أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن؛ فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي ثم ناما، وما كنا ننام منه قبل ذلك. وقام زوجها إلى ناقتهم فإذا ضرعها مليء باللبن، فحلب منها و شرب، وشربت معه حليمة حتى انتهيا ريا وشبعا، فبات الجميع بخير ليلة! فقال زوجها: تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة! فقالت: والله إني لأرجو ذلك. ثم خرجوا وركبت حليمة الأتان العجفاء التي أتت عليها، وحملت النبي صلى الله عليه وسلم معها، فسبقت جميع المرضعات، حتى إن صواحبها ليقلن لها: يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك أربعي علينا (أي تمهلي) أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فتقول لهن: بلى والله إنها لهي ! فيقلن: والله إن لها لشأنا! ثم قدموا منازلهم من بلاد بني سعد، وليس في أرض الله أجدب منها؛ فكانت غنم حليمة ترعى وتعود شباعا مملوءة لبنا، فيحلبون، ويشربون، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع، حتى كان قومها من بني سعد يقولون لرعيانهم: ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعا ما فيها قطرة لبن، وتروح غنم حليمة شباعا تمتلىء لبنا. ولم تزل حليمة وأهلها يأتيهم من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتا الرضاعة وفصلته (أي فطمته). وكان صلى الله عليه وسلم يشب شبابا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما فتيا، فقدموا به على أمه وهم أحرص شيء على مكثه فيهم؛ لما كانوا يرون من بركته، فقالت حليمة لأمه آمنة: لو تركت بني عندي حتى غلظ، فإني أخاف عليه وباء مكة؟ وأخذوا يلحون عليها حتى ردته معهم، فرجعوا به.
حادثة شق الصدر
»
بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني سعد، حتى إذا كانت السنة الرابعة أو الخامسة من مولده وقع حادث شق صدره. روى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه (أي أغلق قلبه) ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه (يعني مر ضعته) فقالوا: إن محمدا قد قتل. تقول حليمة: فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدته قائما منتقعا وجهه، فالتزمته (أي فاحتضنته) والتزمه أبوه، فقلنا: مالك يا بني؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاني وشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدرى ما هو؟ فرجع به إلى خبائنا وقال لي أبوه: يا حليمة، لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به، فاحتملناه فقدمنا به على أمه؛ فقالت: ما أقدمك به يا ظئر (الظئر: المرضعة) وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك؟ فقلت: قد بلغ الله بابني وقضيت الذي علي، وتخوفت الأحداث عليه، فأديته إليك كما تحبين. قالت: ما هذا شأنك فاصدقيني خبرك. فلم تدعني حتى أخبرتها. قالت: أفتخوفت عليه الشيطان؟ قلت: نعم. قالت: كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، وإن لبني لشأنا، أفلا أخبرك خبره؟ قلت: بلى. قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء قصور بصرى، من أرض الشام، ثم حملت به فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف على ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض، رافع رأسه إلى السماء، دعيه عنك وانطلقي راشدة
وفاة آمنة أم الرسول صلى الله عليه وسلم وكفالة جده له
»
رأت آمنة وفاء لذكرى زوجها الراحل أن تزور قبره بيثرب فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ خمسمائة كيلو مترا ومعها ولدها اليتيم ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ وخادمتها أم أيمن ،وقيمها عبد المطلب، فمكثت شهرا، ثم رجعت، وبينما هي راجعة إذ يلاحقها المرض، ويلح عليها في أوائل الطريق، فماتت بالأبواء بين مكة والمدينة. وعاد به عبد المطلب إلى مكة ،وكانت مشاعر الحنان في فؤاده تزيد نحو حفيده اليتيم ، الذي أصيب بمصاب جديد نكأ الجروح القديمة ، فرق عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده ، فكان لا يدعه لوحدته ، بل يؤثره على أولاده ، وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة ، وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام صغير حتى يجلس عليه ، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه ، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم : دعوا ابني هذا فوالله إن له لشأنا ثم يجلس معه على فراشه ،ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع. ولثماني سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره صلى الله عليه وسلم توفي جده عبد المطلب بمكة ، ورأى قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه .
وفاة جده وكفالة عمه »
نهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه ،وضمه إلى أولاده ، وقدمه عليهم ، واختصه بفضل احترام وتقدير ، وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه ، ويبسط عليه حمايته ،ويصادق ويخاصم من أجله وظهرت بركة محمد صلى الله عليه وسلم وهو مع عمه في مواقف عديدة منها هذا الموقف: فقد حدث أن أصاب مكة جدب ، فقال بعض كبراء قريش لأبي طالب، يا أبا طالب أقحط الوادي، وأجدبت البلاد، فهلم نستسق فقال أبو طالب: نعم هلم بنا، فأحضر محمدا صلى الله عليه وسلم ليستسقي للقوم، وأخذ أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم وألصق ظهره بالكعبة، ثم أمسك بيديه ورفعهما إلي السماء ودعا، وبعد أن كانت السماء خالية ليس فيها سحابة واحدة، إذا بالسحاب يقبل من هنا وهناك ويملأ السماء، وإذا بالمطر يفيض على الوادي كله. وإلى هذا أشار أبو طالب حين قال: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه. وقد حج أحدهم في الجاهلية فإذا به برجل يطوف بالبيت وهو يرتجز ويقول: رب رد إلي راكبي محمدا رده إلي واصطنع عندي يدا فقال:من هذا؟ فقالوا: عبد المطلب بن هاشم، بعث بابن ابنه محمد في طلب إبل له ولم يبعثه في حاجة إلا نجح فيها، وقد أبطأ عليه، فلم يلبث أن جاء محمد والإبل فعانقه، وقال: يا بني لقد جزعت عليك جزعا لم أجزعه على شيء قط، والله لا أبعثك في حاجة أبدا، ولا تفارقني بعد هذا أبدا
بحيرا الراهب
»
خرج أبو طالب في قافلة تاجرا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل تعلق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا. فخرج به معه، فلما نزلت القافلة بصرى وبها راهب يقال له "بحيرا" في صومعة له، وكان أعلم أهل النصرانية، و كانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام، فلما نزلوا قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا. وذلك أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صومعته وفي الركب حين أقبلوا، وغمامة تظله من بين القوم، ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتدلت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته، ثم أرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش فإني أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم، وعبدكم وحركم. فقال له رجل منهم: والله يا بحيرا إن لك اليوم لشأنا، فما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم؟ قال له بحيرا: صدقت، كان قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلوا منه كلكم. فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرا في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده، فقال: يا معشر قريش، لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي، قالوا: يا بحيرا، ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام ، وهو أحدث القوم سنا فتخلف في رحالهم، فقال: لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم، فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى، إن كان للؤم بنا أن يتخلف ابن عبد المطلب عن طعام من بيننا ثم قام فاحتضنه وأجلسه مع القوم، فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرا فقال له: يا غلام، أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه ـ وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما ـ فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما فقال له بحيرا: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه. فقال له: سلني ما بدا لك. فجعل يسأله عن أشياء من حاله في قومه وهيئته وأموره فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته، ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده. فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني قال له بحيرا: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا. قال: فإنه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به. قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم! هذا سيد العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين .فقال أبو طالب: وما علمك بذلك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا وخر ساجدا، ولا تسجد إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا، وسأل أبا طالب أن يرده، ولا يقدم به إلى الشام، خوفا عليه من اليهود فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة.
حرب الفجار»
ولخمس عشرة سنة من عمره صلى الله عليه وسلم كانت حرب الفجار بين قريش ومن معهم من كنانة وبين قيس عيلان ،وكان قائد قريش وكنانة كلها حرب بن أمية لمكانته فيهم سنا وشرفا ،وكان الظفر في أول الأمر لقيس على كنانة ، وبعد ذلك كان الظفر لكنانة على قيس، وسميت بحرب الفجار لانتهاك حرمات الحرم والأشهر الحرم فيها ،وقد حضر هذه الحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ينبل على عمومته، أي يجهز لهم النبل للرمي. كانت حرب الفجار بالنسبة إلي قريش دفاعا عن قداسة الأشهر الحرم،ومكانة أرض الحرم .وهذه الشعائر بقية مما احترم العرب من دين إبراهيم وكان احترامها مصدر نفع كبير لهم ، وضمانا لانتظام مصالحهم وهدوء عداواتهم، ولكن أهل الجاهلية ما لبثوا أن ابتلوا بمن استباحها، فظلموا أنفسهم بالقتال في تلك الأشهر الحرم، وكانت حرب الفجار من آثار هذه الاستباحة الجائرة، وقد ظلت أربعة أعوام ،كان عمر محمد صلى الله عليه وسلم أثناءها بين الخمسة عشر والتسعة عشر.
حلف الفضول »
على إثر حرب الفجار وقع حلف الفضول في ذي القعدة في شهر حرام، تداعت إليه قبائل من قريش : بنو هاشم وبنو المطلب ،وأسد بن عبدالعزى ، وزهرة بن كلاب ، وتيم بن مرة ، فاجتمعوا في دار عبدالله بن جدعان التيمي لسنه وشرفه ، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه ،وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته ،وشهد هذا الحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وقال بعد أن أكرمه الله بالرسالة : لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت .
جد في الصبا وكفاح في الشباب
»
عاش محمد صلى الله عليه وسلم مع عمه حياة الكدح فليس من شأن الرجال أن يقعدوا،.ومن قبله كان المرسلون يأكلون من عمل أيديهم، ويحترفون مهنا شتى ليعيشوا على كسبها. وقد صح أن محمدا عليه الصلاة والسلام اشتغل صدر حياته برعي الغنم وقال:كنت أرعاها علي قراريط لأهل مكة، كما ثبت أن عددا من الأنبياء اشتغل برعايتها، وقد أحاطته العناية الإلهية وهو في تلك السن المبكرة من جميع مظاهر العبث أو اللهو التي كانت شائعة آنذاك، لقد جمع الله لنبيه منذ صغره خير ما في طبقات الناس من ميزات ،وكان طرازا رفيعا من الفكر الصائب والنظر السديد، ونال حظا وافرا من حسن الفطنة وأصالة الفكرة وسداد الوسيلة والهدف، وكان يستعين بصمته الطويل على طول التأمل وإدمان الفكرة واستنتاج الحق، وطالع بعقله الخصب وفطرته الصافية صحائف الحياة وشئون الناس وأحوال الجماعات فأبى ما فيها من خرافة ونأى عنها، ثم عايش الناس على بصيرة من أمره وأمرهم ، فما وجد حسنا شارك فيه، وإلا عاد إلى عزلته العتيدة ،فكان لا يشرب الخمر ،ولا يأكل مما ذبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيدا، ولا احتفالا، بل كان من أول نشأته نافرا من هذه المعبودات الباطلة ، حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها، وحتى كان لا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى. ولا شك أن القدر حاطه بالحفظ، فعندما تتحرك نوازع النفس لاستطلاع بعض متع الدنيا ،وعندما يرضى باتباع بعض التقاليد غير المحمودة تتدخل العناية الربانية للحيلولة بينه وبينها، روى ابن الأثير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمني برسالته، قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب ! فقال :أفعل ، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفا ، فقلت ما هذا ؟ فقالوا عرس فلان بفلانة ، فجلست أسمع فضرب الله على أذني فنمت ، فما أيقظني إلا حر الشمس فعدت إلى صاحبي فسألني ، فأخبرته ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك ،ودخلت بمكة فأصابني مثل أول ليلة .. ثم ما هممت بسوء". وروى البخاري عن جابر بن عبدالله قال: لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة ففعل فخر إلى الأرض، وطمحت عيناه إلى السماء (أي نظر لأعلى وتعلقت عيناه بالسماء) ثم أفاق فقال: إزاري، إزاري، فشد عليه إزاره، فما رؤيت له عورة بعد ذلك. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز في قومه بخلال عذبة وأخلاق فاضلة، وشمائل كريمة فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأعزهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وألينهم عريكة (العريكة: الطبيعة والمعاملة) وأعفهم نفسا، وأكرمهم خيرا، وأبرهم عملا، وأوفاهم عهدا، وآمنهم أمانة، حتى سماه قومه "الأمين"؛ لما جمع فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الخامسة والعشرين من سنه خرج تاجرا إلى الشام في مال خديجة رضى الله عنها ، وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال ، تستأجر الرجال في مالها ليتاجروا لها، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدما إلي الشام.
زواجه من السيدة خديجة رضى الله عنها
»
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم تاجرا في مال السيدة خديجة، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان يدعى نسطورا، فاطلع الراهب إلى ميسرة فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ قال له ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم. فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي! ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل عائدا إلى مكة ، فكان ميسرة إذا كانت الظهيرة واشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به فربح الضعف أو قريبا. ورأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تر قبل هذا، وأخبرها غلامها ميسرة بما رأى فيه صلى الله عليه وسلم من خلال عذبة، وشمائل كريمة، وفكر راجح، ومنطق صادق، ونهج أمين، وعرفت أنها وجدت ضالتها المنشودة ـ وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها، فتأبى عليهم ذلك ـ فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منية، وهذه ذهبت إليه صلى الله عليه وسلم تفاتحه أن يتزوج خديجة، فرضي بذلك، وكلم أعمامه فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه، وعلى إثر ذلك تم الزواج، وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر، وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين، وأصدقها عشرين من الإبل، وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة،وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسبا وثروة وعقلا، وهي أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت. وقد استأنف محمد عليه الصلاة والسلام ما ألفه بعد زواجه من حياة التأمل والعزلة. وهجر ما كان عليه العرب في احتفالاتهم الصاخبة من إدمان ولغو وقمار، وإن لم يقطعه ذلك عن إدارة تجارته،وتدبير معايشه، والضرب في الأرض والمشي في الأسواق. إن حياة الرجل العاقل وسط جماعة طائشة تقتضي ضروبا من الحذر والروية، وخصوصا إذا كان الرجل علي خلق عظيم يتسم بلين الجانب وبسط الوجه
بناء الكعبة وقضية التحكيم
»
ولخمس وثلاثين سنة من مولده صلى الله عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبة ،وذلك لأن الكعبة كانت عبارة عن حجارة مرصوصة ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إسماعيل ،ولم يكن لها سقف ، فسرق بعض اللصوص كنزها الذي كان في جوفها ، وكانت مع ذلك قد تعرضت ـ باعتبارها أثرا قديما ـ للعوامل الجوية التي أضعفت بنيانها ، وصدعت جدرانها . وقبل بعثه صلى الله عليه وسلم بخمس سنين جرف مكة سيل عرم ، انحدر إلى البيت الحرام ،فأوشكت الكعبة منه على الانهيار فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصا على مكانتها ،واتفقوا على أن لا يدخلوا في بنائها إلا طيبا ،فلا يدخلوا فيها مهر بغي ،ولا بيع ربا ،ولا مظلمة أحد من الناس ، وكانوا يهابون هدمها ، فابتدأ بها الوليد بن المغيرة المخزومي ،وتبعه الناس لما رأوا أنه لم يصبه شيء ، ولم يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم ،ثم أرادوا الأخذ في البناء ،فجزأوا الكعبة وخصصوا لكل قبيلة جزءا منها فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة وأخذوا يبنونها ،وتولى البناء بناء رومي اسمه باقوم، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه واستمر النزاع أربع ليال أو خمسا واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه ،وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوه هتفوا : هذا الأمين رضيناه ، هذا محمد ، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر طلب رداء ،فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعا بأطراف الرداء ،وأمرهم أن يرفعوه ، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه، وكان هذا حلا حصيفا رضى به القوم. ولم تكف النفقة الطيبة التي أخرجتها قريش تكاليف البناء، فأخرجوا من الجهة الشمالية نحوا من ستة أذرع ،وهي التي تسمي بالحجر والحطيم ،ورفعوا بابها من الأرض لئلا يدخلها إلا من أرادوا ،ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراعا سقفوه على ستة أعمدة.
الصلاة»
كان في أوائل ما نزل في الإسلام الأمر بالصلاة ، قال مقاتل بن سليمان: فرض الله في أول الإسلام الصلاة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى ،لقوله تعالى : ( وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار) وعن زيد بن حارثة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحي إليه أتاه جبريل ، فعلمه الوضوء ، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه ،وكان ذلك من أول الفريضة . وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه على بن أبي طالب مستخفيا من أبيه ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: أي عم، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم بعثني الله به رسولا إلى العباد، وأنت يا عم أحق من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه، فقال أبو طالب: أي ابن أخي، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت.
خبر الدعوة يصل إلي قريش إجمالا»
ترامت أنباء الدعوة إلى قريش فلم تعرها اهتماما ،ولعلها حسبت محمدا صلى الله عليه وسلم أحد أولئك الديانين الذين يتكلمون في الألوهية وحقوقها ، كما صنع أمية بن أبي الصلت ،وقس بن ساعدة ،وعمرو بن نفيل وأشباههم ، إلا أنها توجست خيفة من ذيوع خبره وامتداد أثره ،وأخذت ترقب على الأيام مصيره ودعوته . وظل النبي صلي الله عليه وسلم يدعو إلي الإسلام سرا مدة ثلاث سنوات.
الجهر بالدعوة
»
مرت ثلاث سنين والدعوة لم تزل سرية وفردية ،وخلال هذه الفترة تكونت جماعة من المؤمنين تقوم على الأخوة والتعاون ،وتبليغ الرسالة وتمكينها من مقامها، ثم نزل الوحي يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعالنة قومه ، ومجابهة باطلهم ومهاجمة أصنامهم . وأول ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية أنه دعا بني هاشم فحضروا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف فكانوا خمسة وأربعين رجلا . فبادره أبو لهب وقال : وهؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصباة واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة ، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك (أي اقصر دعوتك على أهلك فقط) ،وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش ، وتمدهم العرب ، فما رأيت أحدا جاء على بني أبيه بشر مما جئت به ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولم يتكلم في ذلك المجلس . ثم دعاهم ثانية وقال " الحمد لله أحمده وأستعينه ،وأومن به ، وأتوكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثم قال : إن الرائد لا يكذب أهله والله الذي لا إله إلا هو ، إنى رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة ،والله لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن بما تعملون ،وإنها الجنة أبدا أو النار أبدا ، "فقال أبو طالب ": ما أحب إلينا معاونتك ،وأقبلنا لنصيحتك ,وأشد تصديقنا لحديثك ،وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون ، وإنما أنا أحدهم غير أني أسرعهم إلى ما تحب ، فامض لما أمرت به فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك ، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب . فقال أبو لهب : هذه والله السوءة ، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم ، فقال أبو طالب :والله لنمنعه ما بقينا
على جبل الصفا
»
وبعدما تأكد النبي صلى الله عليه وسلم من تعهد أبي طالب بحمايته ، وهو يبلغ عن ربه ، قام يوما على الصفا فصرخ : يا صباحاه : فاجتمع إليه بطون قريش، فدعاهم إلى التوحيد والإيمان برسالته وباليوم الآخر. وقد روى البخاري طرفا من هذه القصة عن ابن عباس . قال: لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين) صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا ، فجعل ينادي يا بني فهر يا بنى عدي لبطون قريش، حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش .فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم :أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم ، أكنتم مصدقي؟ قالوا : نعم ، ما جربنا عليك إلا صدقا ،قال : فإنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد . فقال أبو لهب تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت ( تبت يدا أبي لهب ) . هذه الصيحة العالية هي غاية البلاغ ، فقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلات بينه وبينهم . وأن عصبية القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتي من عند الله. ولم يزل هذا الصوت يرتج دويه في أرجاء مكة حتى نزل قوله تعالى : ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) [15 : 94] فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يعكر على خرافات الشرك وترهاته ،ويذكر حقائق الأصنام وما لها من قيمة في الحقيقة ،يضرب بعجزها الأمثال ، ويبين بالبينات أن من عبدها وجعلها وسيلة بينه وبين الله فهو في ضلال مبين
رد فعل المشركين »
انفجرت مكة بمشاعر الغضب ، وماجت بالغرابة والاستنكار ، حين سمعت صوتا يجهر بتضليل المشركين وعباد الأصنام كأنه صاعقة قصفت السحاب ، فرعدت وبرقت وزلزلت الجو الهادئ وقامت قريش تستعد لحسم هذه الثورة التي اندلعت بغتة ، ويخشي أن تأتى على تقاليدها وموروثاتها . ولكن ماذا سيفعلون أمام رجل صادق أمين ، أعلى مثل للقيم البشرية ولمكارم الأخلاق ، لم يعرفوا له نظيرا ولا مثيلا خلال فترة طويلة من تاريخ الآباء والأقوام ؟ ماذا سيفعلون ؟ تحيروا في ذلك وحق لهم أن يتحيروا . فاجتمعت قريش للنبي صلي الله عليه وسلم يوما ، فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر ، فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعاب ديننا ، فليكلمه ولينظر ما يرد عليه ، قالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة ، قالوا : أنت يا أبا الوليد ، فأتاه عتبة فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت الرسول صلي الله عليه وسلم قال : أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت الرسول صلي الله عليه وسلم قال : فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت ، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك ، أما والله ما رأينا سخطة أشأم علي قومك منك ، فرقت جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعبت ديننا ، وفضحتنا في العرب حتى طار فيهم أن في قريش ساحرا ، وأن في قريش كاهنا ، ما ينتظر إلا مثل صيحة الحبلى بأن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى ، أيها الرجل : إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغني قريشا رجلا, وإن كان إنما بك الباءة فاختر آي نساء قريش فنزوجك عشرا ، فقال له الرسول صلي الله عليه وسلم : أفرغت ؟ قال : نعم فقال رسول صلي الله عليه وسلم : ( حم * تنزيل من الرحمن الرحيم ) حتى بلغ ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) فقال عتبة : حسبك ، ما عندك غير هذا ؟ قال : لا، فرجع إلي قريش فقالوا : ما وراءك ؟ فقال : ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته ، قالوا : هل أجابك ؟ قال : نعم ، قال : والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه قال أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، قالوا : ويلك يكلمك رجل بالعربية فلا تدرى ما قال ، قال : لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة . وبعد إدارة فكرتهم لم يجدوا سبيلا إلا أن يأتوا إلى عمه أبي طالب فيطلبوا منه أن يكف ابن أخيه عما هو فيه ، ورأوا لإلباس طلبهم لباس الجد والحقيقة أن يقولوا إن الدعوة إلى ترك آلهتهم ، والقول بعدم نفعها وقدرتها سبة قبيحة وإهانة شديدة لها ، وفيه تسفيه وتضليل لآبائهم الذين كانوا على هذا الدين ، وجدت قريش هذا السبيل فتسارعوا إلى سلوكها . فمشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب ، فقالوا : يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا ، وإما تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فنكفيكه فقال أبو طالب قولا رقيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه ، ومضى رسول صلي الله عليه وسلم على ما هو عليه ، يظهر دين الله ويدعو إليه
دار الأرقم»
كان من الحكمة تلقاء هذه الاضطهادات أن يمنع رسول الله صلى الله عليه المسلمين عن إعلان إسلامهم قولا أو فعلا ، وأن لا يجتمع بهم إلا سرا ؛ لأنه إذا اجتمع بهم علنا فلا شك أن المشركين يحولون بينه وبين ما يريد من تزكية المسلمين وتعليمهم الكتاب والحكمة ، وربما يفضي ذلك إلى تصادم الفريقين ، بل وقع ذلك فعلا في السنة الرابعة من النبوة ، وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجتمعون في الشعاب ، فيصلون فيها سرا فرآهم نفر من كفار قريش ، فسبوهم وقاتلوهم ، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلا فسال دمه ، وكان أول دم أهريق في الإسلام . ومعلوم أن المصادمة لو تعددت وطالت لأفضت إلى تدمير المسلمين وإبادتهم ، فكان من الحكمة الاختفاء ، فكان عامة الصحابة يخفون إسلامهم وعبادتهم ودعوتهم واجتماعهم ، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فكان يجهر بالدعوة والعبادة بين ظهراني المشركين ،لا يصرفه عن ذلك شئ ، ولكن كان يجتمع مع المسلمين سرا ؛ نظرا لصالحهم وصالح الإسلام ،وكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا ،وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم ، فاتخذها مركزا لدعوته ،ولاجتماعه بالمسلمين من السنة الخامسة من النبوة . وفي هذه الدار تربى الجيل الذي حمل لواء الإسلام بعد ذلك
الحبشة»
كانت بداية الاضطهادات في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة، بدأت ضعيفة ثم لم تزل يوما فيوما وشهرا فشهرا حتى اشتدت وتفاقمت في أواسط السنة الخامسة ، حتى ضاق بهم المقام في مكة ، وراحوا يفكرون في حيلة تنجيهم من هذا العذاب الأليم وفي رجب سنة خمس من النبوة هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة، كان مكونا من اثني عشر رجلا وأربع نسوة ،رئيسهم عثمان بن عفان ، ومعه السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم: إنهما أول بيت هاجر في سبيل الله بعد إبراهيم ولوط عليهما السلام . كان رحيل هؤلاء تسللا في ظلمة الليل حتى لا تفطن لهم قريش، خرجوا إلى البحر ، واتجهوا إلى ميناء شعيبة، وقيضت لهم الأقدار سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة، وفطنت لهم قريش ، فخرجت في آثارهم ،لكن لما بلغت إلى الشاطئ كانوا قد انطلقوا آمنين ،وأقام المسلمون في الحبشة في أحسن جوار. وفي رمضان من نفس السنة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرم ، وهناك جمع كبير من قريش ، كان فيه ساداتها وكبراؤها ،فقام فيهم ، وأخذ يتلو سورة النجم بغتة ، إن أولئك الكفار لم يكونوا سمعوا كلام الله قبل ذلك ،لأن أسلوبهم كان هو العمل بما تواصى به بعضهم بعضا، من قولهم: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) [26:41] فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة ، وقرع آذانهم كلام إلهي رائع خلاب، لا يحيط بروعته وجلالته البيان، بقي كل واحد مصغيا إليه ، لا يخطر بباله شئ سواه ، حتى إذا تلا في خواتيم هذه السورة قوارع تطير لها القلوب ثم قرأ ( فاسجدوا لله واعبدوا ) [62:53] ثم سجد ، لم يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجدا، وفي الحقيقة كانت روعة الحق قد صدعت العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين، فما تمالكوا أن يخروا لله ساجدين. وأسقط في أيديهم لما أحسوا أن جلال كلام الله لوى زمامهم ، فارتكبوا عين ما كانوا يبذلون قصارى جهدهم في محوه وإفنائه ،وقد توالى عليهم اللوم والعتاب من كل جانب ، ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين، وعند ذلك كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم بكلمة تقدير ، وأنه قال عنها: "تلك الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى" جاءوا بهذا الإفك المبين ، ليعتذروا عن سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يستغرب هذا من قوم كانوا يؤلفون الكذب ، ويطيلون الدس والافتراء. وبلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة ،ولكن في صورة تختلف تماما عن صورته الحقيقية ، بلغهم أن قريشا أسلمت ، فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة ، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار ، وعرفوا جلية الأمر ، رجع منهم من رجع إلى الحبشة ، ولم يدخل مكة منهم أحد إلا مستخفيا ، أو في جوار رجل من قريش . ثم اشتد عليهم وعلى المسلمين البلاء والعذاب من قريش وسطت بهم عشائرهم ، فقد كان صعب على قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الجوار ،ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم بدا من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى ،وكانت هذه الهجرة الثانية أشق من سابقتها ، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها ، بيد أن المسلمين كانوا أسرع ويسر الله لهم السفر ، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا. وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلا ،وثمان عشرة أو تسع عشرة امرأة
قريش تحاول اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم
»
وبعد فشل قريش وخيبتهم مع أبي طالب عادوا إلى ضراوتهم وتنكيلهم بأشد مما كان قبل ذلك ، وخلال هذه الأيام نشأت في طغاتهم فكرة إعدامه صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه الفكرة وتلك الضراوة هي التي تسببت في تقوية الإسلام ببطلين جليلين من أبطال مكة، وهما: حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضى الله عنهما. فمن تلك الضراوة أن عتيبة بن أبي لهب أتى يوما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنا أكفر بـ (النجم إذا هوي) و (بالذي دنا فتدلى ) ثم تسلط عليه بالأذى ، وشق قميصه ، وتفل في وجهه ، إلا أن البزاق لم يقع عليه ، وحينئذ دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ،وقد استجيب دعاؤه صلى الله عليه وسلم ، فقد خرج عتيبة مرة في نفر من قريش ، حتى نزلوا في مكان من الشام يقال له الزرقاء ، فطاف بهم الأسد تلك الليلة ، فجعل عتيبة يقول : يا ويل أخي ، وهو والله آكلي كما دعا محمد علي، قتلني وهو بمكة، وأنا بالشام، فغدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ برأسه فقتله. ومنها ما ذكر أن عقبة بن أبي معيط وطئ على رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان . ومما يدل على أن طغاتهم كانوا يريدون قتله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن إسحاق في حديث طويل قال : قال أبوجهل : يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ،وتسفيه أحلامنا ،وشتم آلهتنا ، وإني أعاهد الله لأجلسن له بحجر ما أطيق حمله ، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه ، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني ، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم ، قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدا، فامض لما تريد . فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجرا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، فقام يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ، ينتظرون ما أبوجهل فاعل ، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره ، حتى قذف الحجر من يده وقامت إليه رجال قريش فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم ؟قال قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة ، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل ، ولا والله ما رأيت مثل هامته ، ولا مثل قصرته (أي عنقه) ولا أنيابه لفحل قط فهم بي أن يأكلني . فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه . أما طغاة فريش فلم تزل فكرة الإعدام تنضج في قلوبهم ، روى ابن إسحاق عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر ، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل ، لقد صبرنا منه على أمر عظيم ، فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل يمشي حتى استلم الركن ،ثم مر بهم طائفا بالبيت ، فغمزوه ببعض القول ، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها ، فعرفت ذلك في وجهه ، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها ، فوقف ثم قال : أتسمعون يا معشر قريش ، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح ، فأخذت القوم كلمته ، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد ،ويقول : انصرف يا أبا القاسم ، فوالله ما كنت جهولا . فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، وأحاطوا به ، فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه ، وقام أبو بكر دونه ، وهو يبكي ويقول : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟
وفاة أبي طالب
»
ألح المرض بأبي طالب ، فلم يلبث أن وافته المنية ،وكانت وفاته في رجب سنة عشر من النبوة بعد الخروج من الشعب بستة أشهر ولما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل ، فقال : أي عم قل : لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر شئ كلمهم به : على ملة عبد المطلب فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ،فنزلت : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) ونزلت (إنك لا تهدي من أحببت ) ومع أن أبا طالب كان الحصن الذي تحتمي به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء ، إلا أنه بقي على ملة الأشياخ من أجداده ، فلم يفلح كل الفلاح . ففي الصحيح عن العباس بن عبدالمطلب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما أغنيت عن عمك ، فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟قال : هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار.
وفاة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد
»
وبعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين توفيت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، كانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشرة من النبوة ولها خمس وستون سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في الخمسين من عمره . إن خديجة كانت من نعم الله الجليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقيت معه ربع قرن تحن عليه ساعة قلقه وتؤازره في أحرج أوقاته، وتعينه على إبلاغ رسالته، وتشاركه في مغارم الجهاد المر وتواسيه بنفسها ومالها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس ، ورزقني الله ولدها، وحرم ولد غيرها. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال : أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه خديجة، قد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب
عام الحزن
»
وفيه وقعت حادثتان مؤلمتان، وفاة أبي طالب ثم خديجة أم المؤمنين، خلال أيام معدودة ،فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه ، فقد تجرأوا عليه ،وكاشفوه بالأذى بعد موت أبي طالب ،فازداد غما على غم ،حتى يئس منهم ,وخرج إلى الطائف ، رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يئووه وينصروه على قومه ، فلم ير من يئوي ولم ير ناصرا، وآذوه مع ذلك أشد الأذى ونالوا منه ما لم ينله قومه. وكما اشتدت وطأة أهل مكة على النبي صلى الله عليه وسلم اشتدت على أصحابه، حتى التجأ رفيقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الهجرة عن مكة فخرج حتى بلغ برك الغماد ، يريد الحبشة فأرجعه ابن الدغنة في جواره قال ابن إسحاق : لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا ، ودخل بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها:لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك، قال ويقول بين ذلك : ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب . ولأجل توالي مثل هذا الآلام في هذا العام سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحزن، وبهذا اللقب صار معروفا في التاريخ ومع هذا كله كان المسلمون يعرفون منذ أول يوم لاقوا فيه الشدة والاضطهاد ـ بل ومن قبله ـ أن الدخول في الإسلام ليس معناه جر المصائب والحتوف، بل إن الدعوة الإسلامية تهدف ـ منذ أول يومها إلى القضاء على الجاهلية الجهلاء ونظامها الغاشم، وأن من أهدافها الأساسية بسط النفوذ على الأرض والسيطرة على الموقف السياسي في العالم ، لتقود الأمة الإنسانية والجمعية البشرية إلى مرضاة الله . وتخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله . وكان القرآن ينزل بهذه البشارات ـ مرة بالتصريح وأخرى بالكناية ـ ففي تلك الفترات القاصمة التي ضيقت الأرض على المسلمين وكادت تخنقهم ،وتقضي على حياتهم ،كانت تنزل الآيات بما جرى بين الأنبياء السابقين وبين أقوامهم الذين قاموا بتكذيبهم والكفر بهم ، وكانت تشتمل هذه الآيات على ذكر الأحوال التي تطابق تماما أحوال مسلمي مكة وكفارها، ثم تذكر هذه الآيات ما تمخضت عنه تلك الأحوال من إهلاك الكفرة والظالمين وإيراث عباد الله الأرض والديار، فكانت في هذه القصص إشارات واضحة إلى فشل أهل مكة في المستقبل ونجاح المسلمين مع نجاح الدعوة الإسلامية. قال خباب بن الأرت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده ، وهو في ظل الكعبة ،وقد لقينا من المشركين شدة ، فقلت: ألا تدعو الله ، فقعد وهو محمر وجهه ، فقال : لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه ،وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون . ولم تكن هذه البشارات مخفية مستورة بل كانت فاشية مكشوفة ، يعلمها الكفرة ، كما كان يعلمها المسلمون ، حتى كان الأسود بن المطلب وجلساؤه إذا رأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تغامزوا بهم، وقالوا: قد جاءكم ملوك الأرض سيغلبون على ملوك كسرى وقيصر ثم يصفرون ويصفقون . وأما هذه البشارات بالمستقبل المجيد المستنير في الدنيا ، مع ما فيه من الرجاء الصالح الكبير البالغ إلى النهاية في الفوز بالجنة ، كان الصحابة يرون أن الاضطهادات التي تتوالى عليهم من كل جانب ،والمصائب التي تحيط بهم من كل الأرجاء ، ليست إلا "سحابة صيف عن قليل تقشع " هذا ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يغذي أرواحهم برغائب الإيمان ، ويزكي نفوسهم بتعليم الحكمة والقرآن ، ويربيهم تربية دقيقة عميقة ، يعلو بنفوسهم إلى منازل سمو الروح ونقاء القلب ، ونظافة الخلق ، والتحرر من سلطان الماديات ،والمقاومة للشهوات ، والنزوع إلى رب الأرض والسماوات ،ويذكي جمرة قلوبهم ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ،ويأخذهم بالصبر على الأذى والصفح الجميل وقهر النفس، فازدادوا رسوخا في الدين ،وعزوفا عن الشهوات ،وتفانيا في سبيل مرضاة الله، وحنينا إلى الجنة ،وحرصا على العلم ، وفقها في الدين ومحاسبة للنفس ، وقهرا للشهوات، وغلبة على العواطف ، وتسيطرا على الثائرات والهائجات، وتقيدا بالصبر والهدوء والوقار.
استماع الجن للنبي صلى الله عليه وسلم وإيمانهم
»
عندما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلي مكة مكث بوادي نخلة أياما، وحدث أن قام صلى الله عليه وسلم، من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى وهم سبعة نفر من جن أهل نصيبين فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا. وقد ذكرهم الله في موضعين من القرآن في سورة الأحقاف ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم وفي سورة الجن ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا) إلى تمام الآية الخامسة عشرة . وحقا كان هذا الحادث نصرا آخر أمده الله من كنوز غيبه المكنون بجنوده التي لا يعلمها إلا هو، ثم إن الآيات التي نزلت بصدد هذا الحادث كانت في طيها بشارات بنجاح دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أي قوة من قوات الكون لا تستطيع أن تحول بينها وبين نجاحها ( ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء ،وأولئك في ضلال مبين ) ( وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا)
عرض الإسلام على القبائل
»
في ذي القعدة سنة عشر من النبوة ـ في أواخر يونيو أو أوائل يوليو لسنة 619 م ـ عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ؛ليستأنف عرض الإسلام على القبائل والأفراد ،ولاقتراب الموسم كان الناس يأتون إلى مكة رجالا ، وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ، لقضاء فريضة الحج وليشهدوا منافع لهم ،ويذكروا الله في أيام معلومات، فانتهز رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفرصة كالعادة، فأتاهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم الإسلام ، ويدعوهم إليه ،كما كان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة .. و من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم وعرض نفسه عليهم بنو عامر بن صعصعة ، ومحارب بن خصفة وفزارة ،وغسان ، ومرة ، وحنيفة، وسليم ،وعبس ، وبنو نصر ، وبنو البكاء ،،وكندة ،وكلب ،والحارث بن كعب ،وعذرة ،والحضارمة ، فلم يستجب منهم أحد يقول ربيعة بن عباد. وهو أحد من حضر ذلك الموسم: إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول: يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني، حتى أبين عن الله ما بعثني به. وخلفه رجل أحول وضيء (أي جميل نظيف) له غديرتان (أي ضفيرتان) عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه، قال هذا الرجل: يا بني فلان، إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من بني مالك بن أقيش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه. فقلت لأبي: من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب، أبو لهب. وأتى كندة في منازلهم، وفيهم سيد يقال له مليح، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه. وأتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له "بيحرة بن فراس": والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر (أي الحكم والملك) من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء، فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه. فلما عاد الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كانت أدركته السن حتى لا يقدر أن يحضر معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا، فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف، هل لذناباها من مطلب (يقصد هل هناك سبيل لتدارك الموقف واللحاق بهذا الشرف) والذي نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلي قط (أي من بني إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام) وإنها لحق فأين رأيكم كان عنكم. كذلك أتى صلى الله عليه وسلم بني حنيفة في منازلهم فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردا منهم. وأتى بطنا من بني كلب يقال لهم بنو عبد الله،فدعاهم إلى الله،وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول لهم: يا بني عبد الله،إن الله قد أحسن اسم أبيكم، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره، كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله من الهدى والرحمة، ولا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب، له اسم وشرف إلا تصدى له فدعاه وعرض عليه ما عنده.
الإسراء والمعراج وفرض الصلاة
»
وبينما النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة التي كانت دعوته تشق فيها طريقا بين النجاح والاضطهاد ،وكانت تتراءى نجوم ضئيلة تتلمح في آفاق بعيدة ،وقع حادث الإسراء والمعراج . وقد اختلف في تعيين زمنه،والراجح أن الإسراء إنما وقع إما قبيل بيعة العقبة الأولى أو بين بيعتي العقبة الأولى والثانية، وفي هذه الحادثة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ، بجسده على الصحيح ، من المسجد الحرام إلى بيت المقدس راكبا على البراق صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام ، فنزل هناك ، وصلى بالأنبياء إماما ، وربط البراق بحلقة باب المسجد ، وقد حكى النبي صلى الله عليه وسلم تفاصيل تلك الرحلة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينا أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا فعدت إلى مضجعي؛ فجاءني الثانية فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا، فعدت إلى مضجعي؛ فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه، فجلست فأخذ بعضدي، فقمت معه، فخرج بي إلى باب المسجد، فإذا دابة أبيض، بين البغل والحمار، في فخذيه جناحان يحفز بهما (أي يدفع) رجليه، يضع يده في منتهى طرفه، فحملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته. قال الحسن في حديثه: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى جبريل عليه السلام معه حتى انتهى به إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء عليهم السلام فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ثم عرج به في تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا ، فاستفتح له جبريل ففتح له ، فرأى هنالك آدم أبا البشر ، فسلم عليه فرحب به ،ورد عليه السلام ، وأقر بنبوته ، وأراه الله أرواح الشهداء عن يمينه وأرواح الأشقياء عن يساره . ثم عرج به إلى السماء الثانية ، فاستفتح له ، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم ، فلقيهما وسلم عليهما فردا عليه ، ورحبا به ،وأقرا بنبوته . ثم عرج به إلى السماء الثالثة ، فرأى فيها يوسف ، فسلم عليه ،فرد عليه ورحب به وأقر بنبوته . ثم عرج به إلى السماء الرابعة ، فرأى فيها إدريس ،فسلم عليه ،ورحب به وأقر بنبوته . ثم عرج به إلى السماء الخامسة فرأى فيها هارون بن عمران ، فسلم عليه ، ورحب به ، وأقر بنبوته. ثم عرج به إلى السماء السادسة فلقي فيها موسى بن عمران ، فسلم عليه ورحب به ، وأقر بنبوته . فلما جاوزه بكى موسى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : أبكي لأن غلاما بعث من بعدي يدخل من الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي . ثم عرج إلى السماء السابعة ، فلقي فيها إبراهيم عليه السلام ، فسلم عليه ، ورحب به وأقر بنبوته . ثم رفع إلى سدرة المنتهى ، ثم رفع له البيت المعمور . ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله ،فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ، وفرض عليه خمسين صلاة ، فرجع حتى مر على موسى ، فقال له : بم أمرك ؟ قال بخمسين صلاة : قال : إن عشيرتك لا تطيق ذلك ، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ،فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار أن نعم ، إن شئت، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى، وهو في مكانه، فوضع عنه عشرا ، ثم أنزل حتى مر بموسى ،فأخبره ،فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عز وجل ،حتى جعلها خمسا ،فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف ، فقال قد استحييت من ربي ، ولكني أرضى وأسلم، فلما بعد نادى مناد : قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي وقد وقع حادث شق صدره صلى الله عليه وسلم هذه المرة أيضا، وقد رأى ضمن هذه الرحلة أمورا عديدة: عرض عليه اللبن والخمر فاختار اللبن فقيل: هديت الفطرة أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك. ورأى أربعة أنهار في الجنة نهرين ظاهران ونهران باطنان، والظاهران هما النيل والفرات، ومعنى ذلك أن رسالته ستتوطن الأودية الخصبة في النيل والفرات، وسيكون أهلها حملة الإسلام جيلا بعد جيل، وليس معناه أن مياه النهرين تنبع من الجنة، ورأى مالك خازن النار، وهو لا يضحك، وليس على وجهه بشر وبشاشة وكذلك رأى الجنة والنار. ورأى أكلة أموال اليتامى ظلما لهم مشافر كمشافر الإبل، يقذفون في أفواههم قطعا من نار كالأفهار(أي كالأحجار) فتخرج من أدبارهم. ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة، لا يقدرون لأجلها أن يتحولوا عن مكانهم، ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار فيطئونهم. ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن، ويتركون الطيب السمين. ورأى النساء اللاتي يدخلن على الرجال من ليس من أولادهم، رآهن معلقات بثديهن. ورأى عيرا من أهل مكة في الإياب والذهاب وقد دلهم على بعير ند لهم (أي تاه) ، وشرب ماءهم من إناء مغطى وهم نائمون ثم ترك الإناء مغطى، وقد صار ذلك دليلا على صدق دعواه في صباح ليلة الإسراء. قال ابن القيم: فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى فاشتد تكذيبهم له وأذاهم واستضرارهم عليه، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس فجلاه الله له، حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته، ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئا، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها وكان الأمر كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا نفورا، وأبى الظالمون إلا كفورا. فقال أكثر الناس: "هذا والله الإمر البين (الأمر أي العجيب المنكر) والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة. قال: فارتد كثير ممن كان أسلم، وذهب الناس إلى أبي بكر فقالوا له: هل لك يا أبا بكر في صاحبك، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة، فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه. فقالوا: بلى هاهو ذاك في المسجد يحدث به الناس، فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك، فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: نعم. قال: يا نبي الله فصفه لي، فإني قد جئته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرفع لي حتى نظرت إليه. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفه لأبي بكر ويقول أبو بكر صدقت، أشهد أنك رسول الله. حتى إذا انتهى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: وأنت يا أبا بكر الصديق. فيومئذ سماه "الصديق".
الهجرة إلى المدينة»
هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم عندما اشتد أذى قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم أذن الله لرسوله بالهجرة إلى المدينة حيث أنصار الله ورسوله.وفى الليلة التى إختارتها قريش لتنفيذ جريمة القتل فى سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم وبعد أن حاصروه فى بيته ليقتلوه، أعمى جبار السموات والأرض أعينهم عن نبيه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وأخرجه من بينهم دون أن يروه،وقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أبى بكر فاصطحبه معه فى طريق هجرته. ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشا ستتبعه لتقتله وأنهم لا شك سيفكرون أنه خرج يقصد اصحابه فى المدينة إلى الشمال من مكه فقد اتجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكمته جنوبا ليضللهم حتى وصل إلى جبل ثور، وكمن هو وأبو بكر فى غار فى قمة الجبل ثلاثة أيام حتى يهدأ الطلب. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وابو بكر قد استأجرا عبد الله بن أريقط ليدلهما على الطريق، فخرج بهما بعد ثلاثة أيام إلى المدينة متجنبا فى ذلك الطريق الطبيعى إليها وسالكا طريقا أخرى مهجورة لا يعرفها إلا قليل من الناس، حتى وصل إلى قباء فتلقاه المسلمون هناك وقد حملوا السلاح إيذانا ببدء عهد النصرة والمنعة.
طلائع الهجرة»
وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية، ونجح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة ـ وهو أخطر كسب حصل عليه الإسلام منذ بداية دعوته ـ أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى هذا الوطن. ولم يكن معنى الهجرة إلا إهدار المصالح، والتضحية بالأموال، والنجاة بالنفس فحسب، مع الإشعار بأنه مستباح منهوب، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها، وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدري ما يسفر عنه من قلاقل وأحزان. وبدأ المسلمون يهاجرون وهم يعرفون كل ذلك، وأخذ المشركون يحولون بينهم وبين خروجهم، لما كانوا يحسون من الخطر، وهاك نماذج من ذلك: 1 ـ كان من أول المهاجرين أبو سلمة، هاجر قبل العقبة الكبرى بسنة هو وزوجته وابنه، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ فأخذوا منه زوجته، وغضب آل أبي سلمة لرجلهم، فقالوا: لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم فخلعوا يده، وذهبوا به. وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة، وكانت أم سلمة بعد ذهاب زوجها وضياع ابنها تخرج كل غداة بالأبطح تبكي حتى تمسى، ومضى على ذلك نحو سنة، فرق لها أحد ذويها وقال: ألا تخرجون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وولدها فقالوا لها: الحقي بزوجك إن شئت، فاسترجعت ابنها من عصبته، وخرجت تريد المدينة ـ رحلة تبلغ خمسمائة كيلو متر ـ وليس معها أحد من خلق الله، حتى إذا كانت بالتنعيم لقيها عثمان بن طلحة بن أبى طلحة، وبعد أن عرف حالها شيعها حتى أقدمها إلى المدينة، فلما نظر إلى قباء قال: زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعا إلى مكة. 2 ـ ولما أراد صهيب الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ربح صهيب ربح صهيب. 3 ـ وتواعد عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل موضعا يصبحون عنده، ثم يهاجرون إلى المدينة، فاجتمع عمر وعياش وحبس عنهما هشام. ولما قدما المدينة ونزلا بقباء قدم أبو جهل وأخوه الحارث إلى عياش ـ وأم الثلاثة واحدة ـ فقالا له: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط ، ولا تستظل بشمس حتى تراك، فرق لها. فقال له عمر: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم ، فوالله لو آذى أمك القمل لامتشطت، ، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت، فأبي عياش إلا الخروج معهما؛ ليبر قسم أمه، فقال له عمر: أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا ابن أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى، فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة نهارا موثقا، وقالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا. هذه ثلاثة نماذج لما كان المشركون يفعلونه بمن يريد الهجرة إذا علموا بذلك. ولكن مع كل ذلك خرج الناس أرسالا يتبع بعضهم بعضا. وبعد شهرين وبضعة أيام من بيعة العقبة الكبرى لم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوبكر وعلي اللذان أقاما بأمره لهما، وإلا من احتبسه المشركون كرها، وقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج وأعد أبو بكر جهازه. روى البخاري عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين، إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين (اللابة: أرض يعلوها حجارة سود، وكان يحيط بالمدينة جبلان من الحجارة السود) فهاجر من هاجر إلى المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر للهجرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال له أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه
مطاردة قريش للنبي صلي الله عليه وسلم
»
غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة 27 من شهر صفر سنة 14 من النبوة الموافق 13 سبتمبر سنة 622 م. وأتى إلى دار رفيقه أبي بكر رضي الله عنه. ثم غادرا منزل الأخير من باب خلفي ليخرجا من مكة على عجل، وقبل أن يطلع الفجر. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشا ستجتهد في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالا، فقد سلك الطريق الذي يضاده تماما، وهو الطريق الواقع جنوب مكة، والمتجه نحو اليمن. سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال، حتى بلغ جبلا يعرف بجبل ثور، وهذا جبل شامخ، وعر الطريق، صعب المرتقى، ذا أحجار كثيرة، فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمله أبو بكر حتى انتهى به إلى غار في قمة الجبل، عرف في التاريخ بغار ثور. ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شئ أصابني دونك، فدخل فنظر فيه، ووجد في جانبه ثقبا فشق إزاره وسدها به، وبقي منها اثنان فوضع فيهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع رأسه في حجرأبي بكر ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مالك يا أبا بكر؟ قال: لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب ما يجده. وكمنا في الغار ثلاث ليال، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد. وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما. وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهارا ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر. وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهارا ثم يريحها عليهما،ويأتيهما إذا أمسى في الغار، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما. أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله صلى الله عليه وسلم صباح ليلة تنفيذ المؤامرة. فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا عليا، وسحبوه إلى الكعبة وحبسوه ساعة، علهم يظفرون بخبرهما. ولما لم يحصلوا من علي على شيء جاءوا إلى بيت أبي بكر، وطرقوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها: أين أبوك؟ قالت: لا أدري والله أين أبي؟ فرفع أبو جهل يده فلطم خدها لطمة طرح منها قرطها. وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين، فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة (في جميع الجهات) تحت المراقبة المسلحة الشديدة، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين، كائنا من كان. وحينئذ هب الفرسان والمشاة وقصاص الأثر، وانتشروا في الجبال والوديان، والوهاد والهضاب، لكن دون جدوى وبغير عائد. وقد وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره، روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرفعت رأسي، فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: اسكت يا أبا بكر، ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما. وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة.
في الطريق إلي المدينة »
بعد أن خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه للخروج إلى المدينة. وكانا قد استأجرا عبدالله بن أريقط الليثي، وكان دليلا ماهرا بالطريق، وكان على دين كفار قريش، وأمناه على الرغم من ذلك، وسلما إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما، فلما كانت ليلة الاثنين ـ غرة ربيع الأول سنة 1 هـ / 16 سبتمبر سنة 622 م ـ جاءهما عبدالله بن أريقط بالراحلتين وحينئذ قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت يا رسول الله، خذ إحدى هاتين، وقرب إليه أفضلهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن. وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها رباطا، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها رباط، فشقت نطاقها باثنين (النطاق ما يربط به الوسط كالحزام) فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر، فسميت ذات النطاقين. ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وارتحل معهما عامر بن فهيرة، وأخذهم الدليل عبدالله بن أريقط على طريق السواحل. وأول ما سلك بهم بعد الخروج من الغار أنه سار في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غربا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس اتجه شمالا على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقا لم يكن يسلكه أحد إلا نادرا. ووقع لهم في الطريق بعض الأحداث منها ما رواه 1لبخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: أسرينا ليلتنا (أي سرنا تلك الليلة) ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق، لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليها الشمس، فنزلنا عندها، وسويت للنبي صلى الله عليه وسلم مكانا بيدي، ينام عليه، وبسطت عليه فروة، وقلت: نم يا رسول الله، وأنا أنفض (أي أراقب) لك ما حولك، فنام، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها مثل الذي أردنا (أي الراحة) فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ فقال رجل من أهل المدينة أو مكة. قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم. قلت: أفتحلب ؟ قال: نعم. فأخذ شاة، فقلت: انفض الضرع من التراب والشعر والقذى، فحلب في كعب كثبة من لبن (الكثبة: القليل من الماء أو اللبن أو الطعام) ومعي إداوة (وعاء) حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم يرتوي منها يشرب ويتوضأ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين استيقظ، فصببت من الماء على اللبن حتى برد أسفله، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قال: ألم يأن الرحيل؟ قلت: بلى، قال: فارتحلنا. وكان من عادة أبي بكر رضي الله عنه أنه كان يركب خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وكان شيخا يعرف، ونبي الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول هذا الرجل يهديني الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعني به الطريق، وإنما يعني سبيل الخير. وتبعهما في الطريق سراقة بن مالك،أتاه رجل وهو جالس في مجلس من مجالس قومه بني مدلج، فقال: يا سراقة إني رأيت آنفا خيالا بالساحل، أراه محمدا وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم ولكنني قلت له: إنهم ليسوا هم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا الآن أمام أعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج فرسي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، ثم أتيت فرسي، فركبتها، حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت، ففتحت كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام (وهي عصي كان يصنعها المشركون يستشيرون بها آلهتهم) فاستقسمت بها (أي عملت قرعة) أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام، واقتربت حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات ـ غاصت يدا فرسي في الأرض، ، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر وأنه ممنوع مني، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني (أي لم يأخذا مني شيئا) ولم يسألاني إلا أن قال: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتابا بالأمن يكون آية بيني وبينه، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب له، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومر صلى الله عليه وسلم في مسيره ذلك حتى مر بخيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة تطعم وتسقي من مر بها، فسألاها: هل عندها شئ؟ فقالت: والله لو كان عندنا شئ ما حجبته عنكم فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في جانب الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة ضعيفة ليس بها لبن، فقال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: نعم بأبي وأمي، إن رأيت بها حلبا فاحلبها. فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، فدر اللبن بغزارة، فدعا بإناء كبير يكفي جماعة، فحلب فيه حتى علته الرغوة، فسقاها، فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب، وحلب فيها ثانيا، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها فارتحلوا. فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق عنزات عجافا، فلما رأى اللبن عجب، فقال: من أين لك هذا ولا حلوبة في البيت؟ فقالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، ومن حاله كذا وكذا، قال: إني والله أراه صاحب قريش الذي تطلبه، صفيه لي يا أم معبد، فوصفته بصفاته الرائعة بكلام رائع كأن السامع ينظر إليه وهو أمامه فقال أبو معبد: والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا، لقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا، وأصبح صوت بمكة عاليا يسمعونه ولا يرون القائل: جزى الله رب العرش خير جزائه رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر وارتحلا به وأفلح من أمسى رفيق محمد فيا لقصي ما روى الله عنكم به من فعال لا يحاذى وسؤدد ليهن بني كعب مكان فتاتهم ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد قالت أسماء: ما درينا أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة فأنشد هذه الأبيات، والناس يتبعونه ويسمعون صوته ولا يرونه، حتى خرج من أعلاها. قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجهته إلى المدينة. وفي الطريق لقي النبي صلى الله عليه وسلم أبا بريدة، وكان رئيس قومه، خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر؛ رجاء أن يفوز بالمكافأة الكبيرة التي كانت قد أعلنت عنها قريش، ولما واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه أسلم مكانه مع سبعين رجلا من قومه، ثم نزع عمامته وعقدها برمحه، فاتخذه راية تعلم بأن ملك الأمن والسلام قد جاء ليملأ الدنيا عدلا وقسطا. وفي الطريق لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير، و هو في ركب المسلمين، كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضاء.
النبي صلى الله عليه وسلم ينزل قباء ويبنى بها أول مسجد في الإسلام
»
وفي يوم الاثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة ـ وهي السنة الأولى من الهجرة ـ الموافق 23 سبتمبر سنة 622 م نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء. وكان المسلمون بالمدينة قد علموا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يخرجون كل صباح إلى أطراف المدينة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فرجعوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم. فلما دخلوا إلى بيوتهم طلع رجل من يهود على قلعة من قلاعهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يرتدون ثيابا بيضا، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم (أي حظكم) الذي تنتظرون، وكبر المسلمون فرحا بقدومه، وخرجوا للقائه، وتجمعوا حوله، والسكينة تغشاه، والوحي نزل عليه: { فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} [ 4:66] فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فأخذ من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيى أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبوبكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك. وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يوما مشهودا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم، ومكث علي بن أبي طالب بمكة ثلاثا، حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، ثم هاجر ماشيا على قدميه، حتى لحقهما بقباء، ونزل على كلثوم بن الهدم. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام: الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس. وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس ـ يوم الجمعة ـ ركب بأمر الله له، وأبو بكر خلفه، وأرسل إلى بني النجار ـ أخواله ـ فجاءوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي فى بطن الوادى وكانو مائه رجل
دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة»
وبعد الجمعة دخل النبي صلي الله عليه وسلم المدينة، ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يوما تاريخيا أغر، فقد كانت البيوت والسكك ترتج بأصوات التحميد والتقديس، وكانت بنات الأنصار تتغنى بهذه الأبيات فرحا وسرورا: أشرق البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع والأنصار وإن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة؛ إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى أن ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم،عليه. فكان لايمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته: هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة، فكان يقول لهم: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوى اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلا، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها، وذلك في بني النجار ـ أخواله صلى الله عليه وسلم وكان من توفيق الله لها، فإنه أحب أن ينزل على أخواله يكرمهم بذلك، فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم، وبادر أبو أيوب الأنصارى إلى رحله، فأدخله بيته، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المرء مع رحله، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته، وكانت عنده. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب حتى بني له مسجده ومساكنه، ثم انتقل إلى مساكنه من بيت أبي أيوب، رحمة الله عليه ورضوانه قال أبو أيوب: لما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل السفل، وأنا وأم أيوب في العلو، ، فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل، فقال: يا أبا أيوب إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله وكنا فوقه في المسكن، فلقد انكسر حب لنا (أي إناء) فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها، ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء يؤذيه قال: وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث به إليه، فإذا رد علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده، فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة. وبعد أيام وصلت إليه زوجته سودة، وبنتاه فاطمة وأم كلثوم، وأسامة بن زيد، وأم أيمن، وخرج معهم عبدالله بن أبي بكر بعيال أبي بكر ومنهم عائشة، وبقيت زينب عند أبي العاص لم يمكنها من الخروج حتى هاجرت بعد بدر. قال ابن اسحاق :وتلاحق المهاجرون إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم ولم يبق بمكة منهم أحد إلا مفتون أو محبوس.
بناء المسجد النبوي»
وأول خطوة خطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك هو إقامة المسجد النبوي. ففى المكان الذي بركت فيه ناقته أمر ببناء هذا المسجد واشتراه من غلامين يتيمين كانا يملكانه، وساهم في بنائه بنفسه، فكان ينقل اللبن والحجارة ويقول: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة وكان يقول: هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابة في البناء حتى إن أحدهم ليقول: لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل وكانت في ذلك المكان قبور المشركين، وكان فيه خرب ونخل وشجرة من غرقد، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنشبت، وبالخرب فسويت، وبالنخل والشجرة فقطعت، وصفت في قبلة المسجد، وكانت القبلة إلى بيت المقدس، وجعلت عضادتاه (أي عموداه) من حجارة، وأقيمت حيطانه من الطوب اللبن والطين، وجعل سقفه من جريد النخل، وعمده الجذوع، وفرشت أرضه من الرمال والحصباء (أي الحجارة) وجعلت له ثلاثة أبواب، وطوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، والجانبان مثل ذلك أو دونه، وكان أساسه قريبا من ثلاثة أذرع. وبنى بيوتا إلى جانبه، وسقفها بالجريد والجذوع، وهي حجرات أزواجه صلى الله عليه وسلم، وبعد تكامل الحجرات انتقل إليها من بيت أبي أيوب. ولم يكن المسجد موضعا لأداء الصلوات فحسب، بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تلتقي وتتآلف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما باعدت بينها النزعات الجاهلية وحروبها، وقاعدة لإدارة جميع الشئون وبث الانطلاقات، وبرلمانا لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية.
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
»
وكما قام النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد مركز التجمع والتآلف؛ قام بعمل آخر من أروع ما يحفظه التاريخ، وهو عمل المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. قال ابن القيم: ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلا نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله عز وجل {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } [ 75:8] رد التوارث دون عقد الاخوة. وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقدا نافذا، لا لفظا فارغا، وعملا يرتبط بالدماء والأموال لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر. وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال. فقد روى البخاري أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا، فاقسم مالي نصفين، ولى امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي، أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، وأين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط (طعام من لبن الإبل) وسمن، ثم تابع الغدو، ثم جاء يوما وبه أثر صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مهيم ؟ (كلمة يمانية معناها ما الذي أرى بك) قال: تزوجت. قال: كم سقت إليها؟ قال: نواة من ذهب. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: لا، فقالوا: فتكفونا المؤنة، ونشرككم في الثمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا. وهذا يدلنا على ما كان عليه الأنصار من الحفاوة البالغة بإخوانهم المهاجرين، ومن التضحية والإيثار والود والصفاء وما كان عليه المهاجرون من تقدير هذا الكرم حق قدره، فلم يستغلوه ولم ينالوا منه إلا بقدر ما يحفظ حياتهم. وحقا فقد كانت هذه المؤاخاة حكمة فذة، وسياسة صائبة حكيمة، وحلا رائعا لكثير من المشاكل التي كان يواجهها المسلمون، والتي أشرنا إليها. وكما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقد المؤاخاة بين المؤمنين قام بعقد معاهدة أزاح بها كل ما كان من حزازات الجاهلية والنزعات القبلية، ولم يترك مجالا لتقاليد الجاهلية، وهاك بنودها ملخصا: هذا كتاب من محمد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم: 1 ـ أنهم أمة واحدة من دون الناس. 2 ـ المهاجرون من قريش على ربعتهم (أي حالتهم التي وجدها عليهم الإسلام) يتعاقلون بينهم (أي يعقل بعضهم عن بعض، والعقل: الدية) وهم يفدون عانيهم (أي أسيرهم) بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وكل قبيلة من الأنصار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 3 ـ وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم (أي المثقل بالدين) أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل(أي دية). 4 ـ وأن المؤمنين المتقين على من بغى عليهم، أو ابتغى ظلما (أي طلب إتاوة بالظلم) أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين. 5 ـ وأن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم. 6 ـ ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر. 7 ـ ولا ينصر كافرا على مؤمن. 8 ـ وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم. 9 ـ وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم. 10 ـ وأن سلم المؤمنين واحدة، ولا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم. 11ـ وأن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله (البواء: المساواة، والمقصود أنهم يد واحدة يثأرون لبعضهم). 12 ـ وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن. 13 ـ وأنه من اعتبط مؤمنا قتلا (أي قتله بلا جناية) عن بينة فإنه قود به (أي عليه الدية) إلا أن يرضى ولي المقتول. 14 ـ وأن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه. 15 ـ وأنه لا يحل لمؤمن أن ينصر محدثا (أي مجرما) ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. 16 ـ وأنكم مهما اختلفتم فيه من شئ فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.
خبر الآذان »
لما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين، واجتمعت كلمة الأنصار، استحكم أمر الإسلام فقامت الصلاة، وفرضت الزكاة والصيام وقامت الحدود، وفرض الحلال والحرام. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها أن يجعل بوقا كبوق يهود الذي يهرعون به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة. فبينما هم على ذلك إذ رأى عبدالله بن زيد بن ثعلبة أخو بلحارث بن الخزرج في منامه الآذان، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله إنه طاف بي هذه الليلة طائف، مر بي رجل عليه ثوبان أخضران، يحمل ناقوسا في يده، فقلت له: يا عبدالله، أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قلت: وما هو؟ قال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح. الله أكبر، الله أكبر. لا إله إلا الله. فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها، فإنه أندى صوتا منك، فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه، وهو يقول: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد علي ذلك.
التهيؤ لفتح مكة ومحاولة الإخفاء»
روى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عائشة ـ قبل أن يأتي إليه خبر نقض قريش للميثاق بثلاثة أيام ـ أن تجهز أدوات الحرب الخاصة به، ولا يعلم أحد، فدخل عليها أبو بكر، فقال: يا بنية ما هذا الجهاز؟ قالت: والله ما أدري. فقال: والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله؟ قالت: والله لا علم لي. وفي صباح اليوم الثالث جاء عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا، واستنجد برسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل ثم أبو سفيان وتأكد عند الناس الخبر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. وزيادة في الإخفاء والتعمية، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قوامها ثمانية رجال تحت قيادة أبي قتادة بن ربعي إلى بطن أضم فيما بين ذي خشب وذي المروة على ثلاثة برد (البريد: اثنا عشر ميلا تقريبا) من المدينة، في أول شهر رمضان سنة 8 هـ ليظن الظان أنه صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار، وواصلت هذه السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة، فسارت إليه حتى لحقته. وحدث أن كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش كتابا يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها مالا على أن تبلغه قريشا، فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليا والمقداد، فقال: انطلقا حتى تأتيا روضة خاخ، فإن بها ظعينة (أي مسافرة) معها كتاب إلى قريش، فانطلقا تعادي بهما خيلهما حتى وجدا المرأة بذلك المكان، فاستنزلاها، وقالا: معك كتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، ففتشا رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها علي: أحلف بالله، ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهما، فأتيا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: (من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش) يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا، فقال: ما هذا يا حاطب؟ فقال:لا تعجل علي يا رسول الله، والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرءا ملصقا في قريش، لست من أنفسهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك لهم قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا (أي معروفا) يحمون بها قرابتي، فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه قد شهد بدرا، و ما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فذرفت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم. وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيئهم للزحف والقتال.
الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة»
لعشر ليال خلون من شهر رمضان المبارك سنة 8هـ غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة متجها إلى مكة، في عشرة آلاف من الصحابة رضي الله عنهم، واستخلف على المدينة أبا رهم الغفاري. ولما كان بالجحفة أو فوق ذلك لقيه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلما مهاجرا، ثم لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث وابن عمته عبدالله بن أبي أمية، فأعرض عنهما؛ لما كان يلقاه منهما من شدة الأذى، فقالت له أم سلمة: لايكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك، وقال علي لأبي سفيان بن الحارث: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين} فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا،ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} فأنشده أبو سفيان أبياتا منها: لعمرك إني حين أحمل راية لتغلب خيل اللات خيل محمد لكالمدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني حين أهدى فأهتدي هداني هاد غير نفسي ودلني على الله من طردت كل مطرد (المدلج: السائر ليلا) فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: أنت طردتني كل مطرد! وقد حسن إسلام أبي سفيان بن الحارث بعد ذلك، ويقال إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حياء منه. وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ ماء الكديد فأفطر وأفطر الناس معه، ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران عشاء، فأمر الجيش فأوقدوا النار، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وركب العباس ـ بعد نزول المسلمين بمر الظهران ـ بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وخرج يلتمس لعله يجد بعض الحطابة أو أحدا يخبر قريشا؛ ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها.
الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل مكة »
مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه لدخول مكة حتى انتهى إلى ذي طوى، وكان يخفض رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن شعر لحيته ليكاد يمس راحلته، وهناك وزع جيشه، وكان خالد بن الوليد على ميمنة الجيش ـ وفيها قبائل أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب ـ فأمره أن يدخل مكة من أسفلها، وقال: إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدا، حتى توافوني على الصفا. وكان الزبير بن العوام على الميسرة، وكان معه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يدخل مكة من أعلاها من ناحية كداء، وأن يغرز رايته بالحجون، ولا يبرح حتى يأتيه. وكان أبو عبيدة على المشاة والحسر (وهم الذين لا سلاح معهم) فأمره أن يأخذ بطن الوادي، حتى يدخل مكة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على الطريق التي كلفت الدخول منها، فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من المشركين إلا قتلوه، وقتل من أصحابه من المسلمين كرز بن جابر الفهري وخنيس بن خالد بن ربيعة، كانا قد شذا عن الجيش، وسلكا طريقا غير طريقه فقتلهما المشركون، وقابل خالد وأصحابه سفهاء قريش الذين تجمعوا لحرب المسلمين بالخندمة فقتلوا من المشركين اثني عشر رجلا فانهزم المشركون، وانهزم حماس بن قيس ـ الذي كان يعد السلاح لقتال المسلمين ـ حتى دخل بيته، فقال لامرأته أغلقي علي بابي، فقالت: وأين ما كنت تقول ؟ فقال: إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة واستقبلتنا بالسيوف المسلمة يقطعن كل ساعد وجمجمة ضربا فلا يسمع إلا غمغمة لهم نهيت خلفنا وهمهمه لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه (الغمغمة والهمهمة: الصوت غير المفهوم، يعني أصوات أبطال المسلمين في القتال، والنهيت: الزئير) وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا. وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون عند مسجد الفتح، وضرب له هناك قبة، فلم يبرح حتى جاءه رسول الله
الرسول يطهر المسجد الحرام من الأصنام ويعفو عن القرشيين
»
نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه (استلم الحجر يعني لمسه وبدأ الطواف من عنده) ثم طاف بالبيت وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} {جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد}. والأصنام تتساقط على وجوهها. عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته فطاف عليها، وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يشير بقضيب في يده إلى الأصنام ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع. وكان طوافه على راحلته، ولم يكن محرما يومئذ، فاقتصر على الطواف، فلما أكمل الطواف دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففتحت، فدخلها، فرأى فيها الصور، ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ـ يستقسمان بالأزلام (الأزلام سهام كانوا يستشيرون الأصنام بعمل قرعة بينها، والاستقسام أصلا الحلف) فقال: قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قط، ورأى في الكعبة حمامة من عيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصور فمحيت. ثم أغلق الرسول صلى الله عليه وسلم باب الكعبة عليه وعلى أسامة وبلال، ثم صلى هناك، ثم دار في البيت وكبر في نواحيه، ووحد الله، ثم فتح الباب، وقريش قد ملأت المسجد صفوفا ينتظرون ماذا يصنع. وكان الباب مرتفعا عن الأرض قليلا، فوقف وأمسك بجانبي الباب وهم تحته، فقال: لاإله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدمي (المأثرة: ما كان العرب يفتخرون به ويتخذونه وسيلة للتكبر) ، إلا سدانة البيت (أي خدمة البيت الحرام) وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد ـ ما كان بالسوط والعصا ـ ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة (أي فخر) الجاهلية وتعاظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: (يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير). ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: (لا تثريب عليكم اليوم) اذهبوا فأنتم الطلقاء.
رد الأمانات وإعلان شعار الإسلام
»
جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد بعد أن أعلن العفو العام ، فقام إليه علي رضي الله عنه، ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا (أي لبني هاشم) الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال له: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء. وروي أنه قال له حين دفع المفتاح إليه: خذوها يا بني شيبة خالدة مخلدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم. وقال أيضا: يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف. وحانت الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يصعد فيؤذن على الكعبة، وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه، فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته، فقال أبو سفيان: أما والله لا أقول شيئا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: لقد علمت الذي قلتم، ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ دار أم هانئ بنت أبي طالب، فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها، وكان ضحى، فظنها من ظنها صلاة الضحى، وإنما هذه صلاة الفتح. وأجارت أم هانئ حموين لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما، فأغلقت عليهما باب بيتها، وسألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنهما، فقال لها ذلك.
خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني من الفتح»
لما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ومجده بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماء أو يعضد بها شجرة (أي يقطع) فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي إن قال أحد سأقاتل في مكة مثلما قاتل فيها الرسول) فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما حلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب
سرية ذات السلاسل
»
لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بموقف القبائل العربية التي تقطن مشارف الشام في معركة مؤتة، من اجتماعهم إلى الرومان ضد المسلمين، شعر بمسيس الحاجة إلى القيام بعمل حكيم يوقع الفرقة بينها وبين الرومان، وتكون سببا للائتلاف بينها وبين المسلمين، حتى لا تحتشد مثل هذه الجموع الكبيرة مرة أخرى. واختار لتنفيذ هذه الخطة عمرو بن العاص ؛ لأن أم أبيه كانت امرأة من بلي، فبعثه إليهم في جمادي الآخرة سنة 8 هـ على إثر معركة مؤتة ليستألفهم ويستميلهم، وفي ذات الوقت نقلت الاستخبارات أن جمعا من قضاعة قد تجمعوا، يريدون أن يدنوا من أطراف المدينة، فأصبحت الحاجة أشد لبعث عمرو بن العاص إليهم. وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص لواء أبيض وجعل معه راية سوداء، وبعثه في ثلاثمائة من سراة (أي أشراف) المهاجرين والأنصار، ومعهم ثلاثون فرسا، وأمره أن يستعين بمن مر به من بلي وعذرة وبلقين، فسار الليل وكمن النهار، فلما قرب من القوم بلغه أن لهم جمعا كثيرا، فبعث رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده (أي يطلب منه مددا) فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في مائتين وعقد له لواء، وبعث له سراة من المهاجرين والأنصار ـ فيهم أبو بكر وعمر ـ وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعا ولا يختلفا، فلما لحق به أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس، فقال عمرو: إنما قدمت علي مددا، وأنا الأمير، فأطاعه أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس. وسار حتى وطئ بلاد قضاعة، فدوخها حتى أتى أقصى بلادهم، ولقي في آخر ذلك جمعا، فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا. وبعث عوف بن مالك الأشجعي بريدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بعودتهم وسلامتهم، وما كان في غزاتهم. وسميت الغزوة بذات السلاسل نسبة للمكان الذي نزل به المسلمون، بينه وبين المدينة مسيرة عشرة أيام.
أبو بكر أمير على الحج في العام التاسع للهجرة»
وفي ذي القعدة أو ذي الحجة من السنة التاسعة للهجرة، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج، ليقيم بالمسلمين المناسك. ثم نزلت أوائل سورة براءة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ليبلغ الناس الأحكام التي جاءت فيها، وذلك تمشيا منه على عادة العرب في عهود الدماء والأموال، فالتقى علي بأبي بكر ببعض الطريق، فقال أبو بكر:أمير أو مأمور؟ قال علي:لا بل مأمور، ثم مضيا، وأقام أبو بكر للناس حجهم، حتى إذا كان يوم النحر، قام علي بن أبي طالب عند الجمرة، فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. عن زيد بن يفيع قال: سألنا عليا بأي شيء بعثت في الحجة؟ قال: بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع مسلم وكافر في المسجد الحرام بعد عامه هذا، ومن كان بينه وبين النبي عهد فعهده إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله إلى أربعة أشهر. وبعث أبو بكر رضي الله عنه رجالا ينادون في الناس: ألا لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وكان هذا النداء بمثابة إعلان نهاية الوثنية في جزيرة العرب، وأنها لا تبدئ ولا تعيد بعد هذا العام. اله إلي الرفيق الأعلى
حجة الوداع»
تمت أعمال الدعوة وإبلاغ الرسالة وبناء مجتمع جديد، على أساس إثبات الألوهية لله ونفيها عن غيره، وعلى أساس رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وكأن هاتفا خفيا انبعث في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشعره أن مقامه في الدنيا قد أوشك على النهاية، حتى إنه حين بعث معاذا على اليمن سنة 10 هـ قال له فيما قال: يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري، فبكى معاذ جزعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وشاء الله أن يرى رسوله ثمار دعوته، التي عانى في سبيلها ألوانا من المتاعب بضعا وعشرين عاما، فيجتمع في أطراف مكة بأفراد قبائل العرب وممثليها، فيأخذوا منه شرائع الدين وأحكامه، ويأخذ منهم الشهادة على أنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة ونصح الأمة. فلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو القعدة تجهز للحج، وأمر الناس بالجهاز له، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج لخمس ليال بقين من ذى القعدة. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجه، فأرى الناس مناسكهم، وأعلمهم سنن حجهم، وخطب في الناس خطبته التي ضمنها أواخر وصاياه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس اسمعوا قولى: فإني لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدا، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت؛ فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل ربا موضوع (وضع عنه الدين والدم وجميع أنواع الجناية أي أسقطه عنه) ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أنه لا ربا وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله، وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ـ وكان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل ـ فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية. أما بعد، أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم. أيها الناس، إن النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليوطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله. وإن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم: ثلاثة متوالية، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. أما بعد أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح (أي غير شديد) فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن، عندكم عوان (أي أسيرات) لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله. فاعقلوا أيها الناس قولى فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بينا: كتاب الله وسنة نبيه. أيها الناس، اسمعوا قولى واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟". فذكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد. وبعد أن فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من إلقاء الخطبة نزل عليه قوله تعالى:{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}. وعندما سمعها عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان. ويقال إن عدد المسلمين الذين أدوا حجة الوداع مائة وأربعة وعشرون ألفا، أو مائة وأربع وأربعون ألفا.
آخر البعوث»
كانت كبرياء دولة الروم على الإسلام قد جعلتها تأبى عليه حق الحياة، وحملها ذلك على أن تقتل من أتباعها من يدخل فيه، كما فعلت بفروة بن عمرو الجذامي الذي كان واليا على معان من قبل الروم، فقد غضبوا عليه وسجنوه، ثم حكموا عليه بالقتل فأعدموه، ثم صلبوه وتركوه مصلوبا ليرهب غيره أن يسلك مسلكه. ونظرا إلى هذه الجراءة والغطرسة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهز جيشا كبيرا في صفر سنة 11 هـ، وأمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يبغي بذلك إرهاب الروم، وإعادة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا يحسبن أحد أن بطش الكنيسة لا معقب له، وأن الدخول في الإسلام يجر على أصحابه الهلاك فحسب. وتكلم الناس في قائد الجيش لحداثة سنه، واستبطأوا في بعثه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان خليقا للإمارة (أي جديرا) وإن كان من أحب الناس إلي، وإن هذا من أحب الناس إلى بعده. وأطاع الناس أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا يلتفون حول أسامة، وينتظمون في جيشه، حتى خرجوا ونزلوا الجرف، على فرسخ من المدينة (الفرسخ ثلاثة أميال تقريبا) إلا أن الأخبار المقلقة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرهتهم على التريث، حتى يعرفوا ما يقضي الله به، وقد قضى الله أن يكون هذا أول بعث في خلافة أبي بكر الصديق.
ابتداء شكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم»
لما تكاملت الدعوة، وسيطر الإسلام على الموقف، أخذت طلائع التوديع للحياة والأحياء تطلع من مشاعره صلى الله عليه وسلم، وتنضح بعباراته وأفعاله. فقد اعتكف في رمضان من السنة العاشرة عشرين يوما، بينما كان لا يعتكف إلا عشرة أيام فحسب، وتدارسه جبريل القرآن مرتين، وقال في حجة الوداع: إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا، وقال وهو عند جمرة العقبة: خذوا عني مناسككم لعلي لا أحج بعد عامي هذا، وأنزلت عليه سورة النصر في أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع، وأنه نعيت إليه نفسه. وفي أوائل صفر سنة 11 هـ خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، فصلى على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرطكم (فرط القوم: تقدمهم إلى موضع الماء ليجهزه لهم) وإني شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها. وخرج في منتصف إحدى الليالي إلى البقيع فاستغفر للأموات، وقال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى، وبشرهم قائلا: إنا بكم للاحقون. وفي اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر سنة 11 هـ ـ وكان يوم الاثنين ـ شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة في البقيع، فلما كان في طريق الرجوع أخذه صداع في رأسه، واتقدت الحرارة، حتى إنهم كانوا يجدون شدتها فوق العصابة التي تعصب بها رأسه. وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض أحد عشر يوما، وجميع أيام المرض كانت ثلاثة عشر أو أربعة عشر يوما.
الأسبوع الأخير في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم»
ثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض، فجعل يسأل أزواجه: أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟ ففهمن مراده فأذن له يكون حيث شاء، فانتقل إلى عائشة، يمشي بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب، عاصبا رأسه تخط قدماه حتى دخل بيتها، فقضى عندها آخر أسبوع من حياته. وكانت عائشة تقرأ بالمعوذات والأدعية التي حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تنفث على نفسه (النفث: إخراج بعض الريق من الفم عن طريق النفخ) وتمسحه بيده رجاء البركة. ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة اتقدت حرارة العلة في بدنه صلى الله عليه وسلم، فقال: هريقوا علي سبع قرب (جمع قربة) من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم، فأقعدوه في مخضب (أي طست) وصبوا عليه الماء، حتى طفق يقول، "حسبكم، حسبكم" وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد وهو معصوب الرأس حتى جلس على المنبر، وخطب الناس ـ والناس مجتمعون حوله ـ فقال صلى الله عليه وسلم: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وقال صلى الله عليه وسلم: لا تتخذوا قبري وثنا يعبد. وعرض نفسه للقصاص قائلا "من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه (أي فليقتص) ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه". ألا وإن الشحناء (أي العداوة والبغضاء) ليست من طبعي ولا من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقا إن كان له، أو أحلني منه فلقيت الله وأنا طيب النفس. ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها، فقال رجل: إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال أعطه يا فضل. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، من كان عنده شيء فليؤده، ولا يقل: فضوح الدنيا، ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة! فقام رجل فقال: يا رسول الله عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله، قال: ولم غللتها؟ قال: كنت محتاجا، قال: خذها منه يا فضل. ثم قال: أيها الناس، من خشي من نفسه شيئا فليقم أدع له. فقام رجل فقال: يا رسول الله، إني لكذاب، إني لفاحش، إني لنئوم (أي كثير النوم) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم ارزقه صدقا وإيمانا وأذهب عنه النوم. ثم قام رجل آخر فقال: يا رسول الله، إني لكذاب، وإني لمنافق، وما من شيء إلا قد جنيته. فقام عمر بن الخطاب فقال له: فضحت نفسك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن الخطاب، فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقا وإيمانا وصير أمره إلى خير. ثم أوصى بالأنصار قائلا: "أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي (أي موضع سري وأمانتي) وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم". ثم قال "إن عبدا خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده فاختار ما عنده". قال أبو سعيد الخدري: فبكى أبو بكر قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول:فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن آمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر. ويوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام، قال صلى الله عليه وسلم وقد اشتد به الوجع: هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ـ وفي البيت رجال فيهم عمر ـ فقال عمر: قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا عني. وأوصى ذلك اليوم بثلاث، أوصى بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، أما الثالث فنسيه الراوي، ولعله الوصية بالاعتصام بالكتاب والسنة، أو تنفيذ جيش أسامة، أو هي "الصلاة وما ملكت أيمانكم". والنبي صلى الله عليه وسلم مع ما كان به من شدة المرض كان يصلي بالناس جميع صلواته حتى ذلك اليوم ـ يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام ـ وقد صلى بالناس ذلك اليوم صلاة المغرب، فقرأ فيها بالمرسلات عرفا. وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد، قالت عائشة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصلى الناس؟ قلنا: لا يا رسول الله وهم ينتظرونك، قال: ضعوا لي ماء في المخضب (أي الطست) ففعلنا، فاغتسل فذهب لينوء (أي لينهض بجهد ومشقة) فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ ووقع ثانيا وثالثا ما وقع في المرة الأولى، من الاغتسال ثم الإغماء حينما أراد أن ينوء، فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلى أبوبكر تلك الأيام سبع عشرة صلاة في حياته. عن عائشة قالت: لما استعز رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي اشتد عليه مرضه) قال: " مروا أبا بكر فليصل بالناس ". قلت: يا نبي الله! إن أبا بكر رجل رقيق، ضعيف الصوت كثير البكاء إذا قرأ القرآن، قال:" مروه فليصل بالناس ". فعدت بمثل قولى، إلا أني كنت أحب أن يصرف ذلك عن أبى بكر، وعرفت أن الناس لا يحبون رجلا قام مقامه أبدا، وأن الناس سيتشاءمون به في كل حدث كان، فكنت أحب أن يصرف ذلك عن أبي بكر. عن عبدالله بن زمعة بن الأسود بن المطلب قال: لما استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده في نفر من المسلمين، دعاه بلال إلى الصلاة فقال: " مروا من يصلى بالناس ". فخرجت فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائبا، فقلت: قم يا عمر فصل بالناس، فقام، فلما كبر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته ـ وكان عمر رجلا مجهرا (أي شديد الصوت) ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون!" فبعث إلى أبى بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس. قال عبدالله بن زمعة قال لي عمر: ويحك!! ماذا صنعت بي يا ابن زمعة ؟ والله ما ظننت حين أمرتنى إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس، قلت: والله ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكني حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس. ويوم السبت أو الأحد وجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ (أي فأشار) إليه بأن لا يتأخر، قال: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمع الناس التكبير. وقبل يوم من الوفاة ـ يوم الأحد ـ أعتق النبي صلى الله عليه وسلم غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل استعارت عائشة الزيت للمصباح من جارتها، وكانت درعه صلى الله عليه وسلم مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من الشعير.
آخر يوم من حياته صلى الله عليه وسلم»
روى أنس بن مالك أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر يوم الاثنين ـ وأبو بكر يصلي بهم ـ لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه؛ ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، فقال أنس: وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.ثم لم يأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى. ولما ارتفع الضحى، دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة فسارها بشئ فبكت، ثم دعاها فسارها بشئ فضحكت، قالت عائشة: فسألنا عن ذلك ـ أي فيما بعد ـ فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه، فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه، فضحكت. وبشر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بأنها سيدة نساء العالمين. ورأت فاطمة ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه، فقالت: واكرب أبتاه، فقال لها صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم. ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيرا ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن. وطفق الوجع يشتد ويزيد، وقد ظهر أثر السم الذي أكله بخيبر، حتى كان يقول: يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري (الأبهر: شريان بالقلب) من ذلك السم. وأوصى الناس، فقال: "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم" كرر ذلك مرارا.
الاحتضار»
حين بدأ احتضار النبي صلى الله عليه وسلم أسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري (السحر: الرئة، والنحر: أعلى الصدر) وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل عبدالرحمن بن أبي بكر وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت آخذه لك؟ فأشار صلى الله عليه وسلم برأسه أن نعم، فلينته، وبين يديه ركوة (أي إناء) فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه، يقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات. وما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو إصبعه، وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول: مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى. كرر الكلمة الأخيرة ثلاثا،وماتت يده (يعني سقطت) ولحق بالرفيق الأعلى. إنا لله وإنا إليه راجعون. وقع هذا الحادث حين اشتدت الضحى من يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول في السنة الحادية عشرة هـ. وقد تم له ثلاث وستون سنة وزادت أربعة أيام.
حزن الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم»
تسرب النبأ الفادح وأظلمت على المدينة أرجاؤها وآفاقها. قال أنس: ما رأيت يوما قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يوما كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت فاطمة تنعاه: يا أبتاه أجاب رباه دعاه، يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه. ووقف عمر بن الخطاب ـ وقد أخرجه الخبر عن وعيه ـ يقول: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات. و والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات. وأقبل أبو بكر بعدما سمع الخبر على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمم (أي قصد) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة (ثوب من ثياب اليمن) فكشف عن وجهه، ثم قبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها. ثم خرج أبو بكر وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبي عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان منكم يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} قال ابن عباس:والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها. قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرفت حتى ماتقلنى (أي ما تحملني) رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات
دفن الرسول صلى الله عليه وسلم»
•
وتأخر دفن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حتى تم اختيار الخليفة الأول للمسلمين، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، باتفاق المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة. وشغل الناس عن تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم للدفن حتى كان آخر الليل ـ ليلة الثلاثاء ـ مع الصبح، بقي جسده المبارك على فراشه، مغشي بثوب حبرة، قد أغلق دونه الباب أهله. ويوم الثلاثاء غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يجردوه من ثيابه، وكان القائمون بالغسل العباس وعليا والفضل وقثم ابني العباس، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسامة بن زيد، وأوس بن خولي، فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعلى يغسله، وأوس أسنده إلى صدره. ثم كفنوه في ثلاثة أثواب بيض سحولية (سحول قرية باليمن تصنع الثياب) من كرسف (أي قطن) ليس فيها قميص ولا عمامة، أدرجوه فيها إدراجا. واختلفوا في موضع دفنه، فقال أبو بكر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض، فرفع أبو طلحة فراشه الذي توفي عليه، فحفر تحته، وجعل القبر لحدا. ودخل الناس الحجرة أرسالا (أي جماعات) عشرة فعشرة، يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤمهم أحد، وصلى عليه أولا أهل عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، وصلت عليه النساء بعد الرجال، ثم صلى عليه الصبيان. ومضى في ذلك يوم الثلاثاء كاملا، حتى دخلت ليلة الأربعاء، قالت عائشة: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي (جمع مسحاة، وهي مجرفة من حديد) من جوف الليل من ليلة الأربعاء.
من صفاته وأخلاقه صلى الله عليه وسلم»
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز من جمال خلقه وكمال خلقه بما لا يحيط بوصفه البيان، وكان من أثره أن القلوب فاضت بإجلاله، والرجال تفان وا في حياطته وإكباره، بما لا تعرف الدنيا لرجل غيره، فالذين عاشروه أحبوه إلى حد الهيام، ولم يبالوا أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر. وصدق فيه قول الشاعر: خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدل الطول، فلم يكن قصيرا، ولم يكن طويلا طولا مفرطا، وكانت بشرته بيضاء مشربة بحمرة، عيونه سوداء واسعة، جفونه طويلة الشعر. وكان مستدير الوجه، سواء البطن والصدر، عريض الصدر، عظيم رءوس العظام كالمرفقين والكتفين والركبتين، مع تناسب ذلك مع باقي أعضاء جسمه. قالت أم معبد الخزاعية ضمن ما قالت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهي تصفه لزوجها، حين مر بخيمتها مهاجرا ـ: ظاهر الوضاءة، أبلج (أي مضيء) الوجه، حسن الخلق، إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأحلاهم من قريب، حلو المنطق، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره. وقال علي بن أبي طالب ـ وهو ينعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس كفا، وأجرأ الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وأوفي الناس ذمة، وألينهم عريكة (أي سلس المعاملة) وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة (أي فجاة) هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته (يعني كل من يصفه): لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم. وقال البراء: كان أحسن الناس وجها، وأحسنهم خلقا. وسئل: أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر. وقالت الربيع بنت معوذ: لو رأيته رأيت الشمس طالعة. وقال أبو هريرة: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدا أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنما الأرض تطوي له، وإنا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث. وقال كعب بن مالك: كان إذا سر استنار وجهه، حتى كأنه قطعة قمر. وعرق مرة وهو عند عائشة، فجعلت تبرق أسارير وجهه، فتمثلت له بقول أبي كبير الهذلي. وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل (أسرة وجهه: أي محاسن وجهه والخدان والوجنتان، والعارض: السحاب) وكان أبو بكر إذا رآه يقول: أمين مصطفى بالخير يدعو كضوء البدر زايله الظلام وكان عمر ينشد قول زهير في هرم بن سنان: لو كنت من شئ سوى البشر كنت المضئ ليلة البدر ثم يقول: كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان إذا غضب احمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجنتيه حب الرمان وقال جابر بن سمرة: كان لا يضحك إلا تبسما، وكنت إذا نظرت قلت: أكحل العينين، وليس بأكحل. قال ابن العباس: كان إذا تكلم رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه. وقال أنس: ما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كف النبي صلى الله عليه وسلم، وما شممت عنبرا قط ولا مسكا ولا شيئا أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو جحيفة: أخذت بيده، فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك. وقال أنس:كأن عرقه اللؤلؤ. وقالت أم سليم: هو من أطيب الطيب. وقال جابر: لم يسلك طريقا فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرفه (أي رائحته). أما عن كمال النفس ومكارم الأخلاق، فهذا ما لا سبيل للإحاطة به، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، وكان من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلاسة طبع، ونصاعة لفظ، وجزالة (أي فصاحة) قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، اجتمعت له قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي. وكان الحلم والاحتمال والعفو عند المقدرة، والصبر على المكاره، صفات أدبه الله بها، وكل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هفوة، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يزد مع كثرة الأذى إلا صبرا، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما. قالت عائشة: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم بها، وكان أبعد الناس غضبا وأسرعهم رضا. وكان من صفة الجود والكرم على ما لا يقادر قدره، كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وقال جابر: ما سئل شيئا قط فقال لا. وكان من الشجاعة والنجدة والبأس بالمكان الذي لا يجهل، كان أشجع الناس، حضر المواقف الصعبة، وفر عنه الكماة (أي الشجعان) والأبطال غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة (أي موقف جبن فيه) وحفظت عنه جولة سواه صلى الله عليه وسلم، قال علي: كنا إذا حمي البأس واحمرت الحدق (الحدق: العيون، كناية عن شدة الخوف) اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. قال أنس: فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عرى، في عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا. وكان أشد الناس حياء، قال أبو سعيد الخدري: كان أشد حياء من العذراء في خدرها (أي فراشها) وإذا كره شيئا عرف في وجهه، وكان لا يثبت نظره في وجه أحد، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل (أي أكثر) نظره الملاحظة، لا يشافه أحدا بما يكره حياء وكرم نفس، وكان لا يسمي رجلا بلغ عنه شئ يكرهه، بل يقول: ما بال أقوام يصنعون كذا وكذا، وكان أحق الناس بقول الفرزدق: يغضي حياء ويغضي من مهابته فلا يكلم إلا حين يبتسم وكان أعدل الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، اعترف له بذلك محاوروه وأعداؤه، وكان يسمى قبل نبوته الأمين، ويتحاكم إليه في الجاهلية قبل الإسلام، وروى الترمذي عن علي أن أبا جهل قال له: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله تعالى فيهم {فإنهم لايكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} وسأل هرقل أبا سفيان: هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. وكان أشد الناس تواضعا وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم، قالت عائشة: كان يخصف نعله (أي يصلح) ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشرا من البشر يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه. وكان أوفي الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدبا، وأبسط الناس خلقا، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشا، ولا متفحشا ولا لعانا، ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان لايدع أحدا يمشي خلفه، وكان لا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خدمه، ولم يقل لخادمه أف قط، ولم يعاتبه على فعل شئ أو تركه، وكان يحب المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيرا لفقره. كان في بعض أسفاره فأمر بإصلاح شاة (يعني بتجهيزها للأكل) فقال رجل: علي ذبحها وقال آخر: علي سلخها، وقال آخر: علي طبخها، فقال صلى الله عليه وسلم: وعلي جمع الحطب، فقالوا: نحن نكفيك، فقال: قد علمت أنكم تكفوني، ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه، وقام وجمع الحطب. ولنترك هند بن أبي هالة يصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال هند فيما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه ـ لا بأطراف فمه ـ ويتكلم بجوامع الكلم، فصلا (أي كلاما محددا واضحا) لا فضول فيه (الفضول: ما يمكن الاستغناء عنه) ولا تقصير، دمثا ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمة وإن دقت (أي قلت) لا يذم شيئا، ولم يكن يذم ذواقا (أي طعاما) ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشئ، حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها ـ سماحة ـ وإذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام (يصف أسنانه بأنها شديدة البياض كالسحاب) وكان يخزن لسانه (أي يكفه) إلا عما يعنيه، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره. يتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، لكل حال عنده عتاد (يعني أنه حسن التصرف في كل المواقف) لا يقصر على الحق، ولا يجاوزه إلى غيره، الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة. كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن (أي لا يميز لنفسه مكانا) إذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه؛ حتى لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، من جالسه أو أقامه لحاجته صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، وقد وسع الناس خلقه فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق متقاربين، يتفاضلون عنده بالتقوى، ويوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون (أي يعطون) ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب. كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولاعتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه (القنوط: اليأس) قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والإكثار (يعني من عرض الدنيا) وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: لايذم أحدا، ولا يعيره، ولا يطلب عورته (أي لا يسعى لفضحه) ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير (يعني شد انتباههم) وإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، ويقول: إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فارفدوه (أي أعطوه) ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ. وقال خارجة بن زيد: كان النبي صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئا من أطرافه، وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم من غير جميل، وكان ضحكه تبسما، وكلامه فصلا، لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم، توقيرا له واقتداء به. وعلى الجملة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم محلى بصفات الكمال المنقطعة النظير، أدبه ربه فأحسن تأديبه، حتى خاطبه مثنيا عليه فقال: {وإنك لعلى خلق عظيم} وكانت هذه الخلال مما قرب إليه النفوس، وحببه إلى القلوب، وصيره قائدا تهوى إليه الأفئدة، وألان من شكيمة قومه (أي ألان طباعهم) بعد الإباء حتى دخلوا في دين الله أفواجا. وهذه الخلال التي أتينا على ذكرها خطوط قصار من مظاهر كمال وعظيم صفاته، أما حقيقة ما كان عليه من الأمجاد والشمائل فأمر لا تدرك حقيقته، ومن يستطيع معرفة كنه أعظم بشر في الوجود بلغ أعلى قمة من الكمال، استضاء بنور ربه، حتى صار خلقه القرآن؟! اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد
نسب النبي صلى الله عليه وسلم
«الصادق المصدوق»
ولد محمد صلى الله عليه وسلم من أسرة زكية المعدن نبيلة النسب، جمعت خلاصة ما في العرب من فضائل، وترفعت عما يشينهم من معائب. ويرتفع نسبه صلى الله عليه وسلم إلى نبي الله إسماعيل بن خليل الرحمن إبراهيم عليهما السلام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". واسم رسول الله صلى الله عليه وسلم: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. نسب النبي صلى الله عليه وسلم وأسرته: لنسب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء: جزء اتفق على صحته أهل السير والأنساب وهو إلى عدنان، وجزء اختلفوا فيه ما بين متوقف فيه وقائل به، وهو ما فوق عدنان إلى إبراهيم عليه السلام، وجزء لا نشك أن فيه أمورا غير صحيحة، وهو ما فوق إبراهيم إلى آدم عليه السلام. الجزء الأول : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ـ واسمه شيبة ـ بن هاشم ـ واسمه عمرو ـ بن عبد مناف ـ واسمه المغيرة ـ بن قصي ـ واسمه ـ زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر ـ وهو الملقب بقريش وإليه تنتسب القبيلة ـ بن مالك بن النضر ـ واسمه قيس بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ـ واسمه عامر ـ بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. الجزء الثاني ـ : ما فوق عدنان ،وعدنان هو ابن أد بن هميسع بن سلامان بن عوص بن بوز بن قموال بن أبي بن عوام بن ناشد بن حزا بن بلداس بن يدلاف بن طابخ بن جاحم بن ناحش بن ماخي بن عيض بن عبقر بن عبيد بن الدعا بن حمدان بن سنبر بن يثربي بن يحزن بن يلحن بن أرعوي بن عيض بن ديشان بن عيصر بن أفناد بن أيهام بن مقصر بن ناحث بن زارح بن سمي بن مزي بن عوضة بن عرام بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام . الجزء الثالث : ما فوق إبراهيم عليه السلام، وهو ابن تارح ـ واسمه آزر ـ بن ناحور بن ساروع ـ أوساروغ ـ بن راعو بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ـ عليه السلام ـ بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ ـ يقال هو إدريس عليه السلام ـ بن يرد بن مهلائيل بن قينان بن آنوشة بن شيث بن آدم عليهما السلام.
»
عبد المطلب زعيما لقريش
تولى هاشم بن عبد مناف سقاية الحجاج وإطعامهم (الرفادة)، كان هاشم موسرا ذا شرف كبير وهو أول من أطعم الثريد للحجاج بمكة ،وكان اسمه عمرو، وسمى هاشما لهشمه الخبز للناس وإطعامهم في سنة مجدبة، وهو أول من سن الرحلتين لقريش رحلة الشتاء ورحلة الصيف، ومرت الأيام وتولى عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة، وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون لقومهم وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه ، وأحبه قومه.
»
حفر بئر زمزم »
بينما عبد المطلب نائم في حجر الكعبة إذ أتاه هاتف يأمره بحفر زمزم يقول عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال: احفر طيبة. قلت: وما طيبة؟ ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة. فقلت: وما المضنونة؟ ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر زمزم. قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقى الحجيج الأعظم (أي أن ماءها لا ينتهي أبدا) ولما بين له شأنها ودله على موضعها وعرف أنه قد صدق، أصبح بمعوله ومعه ابنه الحارث، ليس له يومئذ ولد غيره، فحفر فيها، فلما بدا لعبد المطلب الحجارة التي تغطي البئر كبر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقا، فأشركنا معك فيها. قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، فقالوا له: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها. قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد هذيم، قال: نعم، وكانت على حدود الشام، فركب عبد المطلب ومعه جماعة من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش جماعة، والأرض إذ ذاك صحراء لا نهاية لها، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك الصحراء بين الحجاز والشام فني ماء عبد المطلب وأصحابه؛ فظمئوا حتى أيقنوا بالهلاك، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم وقالوا: إنا بمفازة (أي صحراء) ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم، وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك، فمرنا بما شئت. قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة؛ فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخركم رجلا واحدا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة القافلة جميعا. قالوا: نعم ما أمرت به. فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا. ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الأرض (أي لا نسير لطلب الرزق) ولا نبتغى لأنفسنا لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد؛ ارتحلوا، فارتحلوا، حتى إذا فرغوا ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما قامت به انفجرت من تحت خفها عين من ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه وملأوا أسقيتهم. ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلم إلى الماء فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا، فجاءوا وشربوا واستقوا ثم قالوا: قد والله قضي لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبدا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا! فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين زمزم. وعندئذ نذر عبد المطلب: لئن ولد له عشرة نفر، ثم بلغوا معه حتى يمنعوه (أي حتى يكبروا ويحموه) لينحرن أحدهم لله عند الكعبة.
نجاة عبدالله والد النبي صلى الله عليه وسلم من الذبح
كان عبد المطلب بن هاشم، قد نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم، لئن ولد له عشرة نفر، ثم كبروا حتى يحموه، لينحرن أحدهم لله عند الكعبة، فلما تكامل بنوه عشرة وعرف أنهم سيمنعونه، جمعهم ثم أخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك، فأطاعوه، فكتب أسماءهم في القداح (وهي عصي كانوا يقترعون بها عند آلهتهم) واقترع فخرج القدح على عبدالله ،فأخذه عبد المطلب وأخذ الشفرة ثم أقبل به إلى الكعبة ليذبحه، فمنعته قريش ولاسيما أخواله من بنى مخزوم وأخوه أبو طالب، فقال عبد المطلب: فكيف أصنع بنذري؟ فأشاروا عليه أن يأتي عرافة فيستشيرها، فأتاها فأمرت أن يضرب القداح على عبدالله وعلى عشر من الإبل، فإن خرجت على عبدالله يزيد عشرا من الإبل حتى يرضى ربه، فإن خرجت على الإبل نحرها، فرجع وأقرع بين عبدالله وبين عشر من الإبل فوقعت القرعة على عبدالله ،فلم يزل يزيد من الإبل عشرا عشرا ولا تقع القرعة إلا عليه إلى أن بلغت الإبل مائة فوقعت القرعة عليها، فنحرت عنه ثم تركها عبد المطلب لا يرد عنها إنسانا ولا سبعا، وكانت الدية في قريش وفي العرب عشرا من الإبل فأصبحت بعد هذه الوقعة مائة من الإبل، وأقرها الإسلام بعد ذلك، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "أنا ابن الذبيحين" يعنى نبي الله إسماعيل وأباه عبدالله.
وقعة أصحاب الفيل
كان أبرهة الصباح الحبشي النائب العام عن النجاشي على اليمن، فلما رأى العرب يحجون الكعبة بنى كنيسة كبيرة بصنعاء سماها القليس، وأراد أن يجعل حج العرب إليها، وسمع بذلك رجل من بني كنانة فدخلها ليلا فقضى حاجته فيها امتهانا لها، ولما علم أبرهة بذلك ثار غيظه، وسار بجيش عرمرم، عدده ستون ألف جندي، إلى الكعبة ليهدمها، ومعهم ثلاثة عشر فيلا، واختار أبرهة لنفسه فيلا من أكبر الفيلة، وهزم كل من حاول الوقوف أمامه من قبائل العرب، وواصل سيره حتى بلغ المغمس وهناك عبأ جيشه ،وهيأ فيله، ثم بعث بعض رجاله إلى مكة فاستولوا على الأغنام والإبل التي وجدوها، وكان فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم كبير قريش وسيدها. بعدها بعث أبرهة أحد رجاله إلى مكة وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفها، ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تتعرضوا لي فلا حاجة لي في دمائكم. فلما قال ذلك لعبد المطلب قال له: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه منه فهو حرمه، وإن يخل بينه وبينه فوالله ماعندنا دفع عنه، فقال له رسول أبرهة: فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك، فذهب إليه مع بعض أبنائه، وكان عبد المطلب وسيما جميلا مهابا، فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه، ونزل عن كرسيه وجلس بجانبه على الأرض، ثم قال له: ما حاجتك؟ فقال عبد المطلب: حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي، فقال أبرهة: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني! أتكلمني في مائتي بعير أخذت منك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لأهدمه لا تكلمني فيه؟ قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه! قال أبرهة: ما كان ليمتنع مني، قال: عبد المطلب أنت وذلك. فلما أخذ عبد المطلب إبله عاد إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحصن بالجبال خوفا عليهم من الجيش، ثم قام عبد المطلب يدعو الله ويستنصره ومعه جماعة من قريش، ثم لحقوا بقومهم في الجبال ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها. وتهيأ أبرهة لدخول مكة ، فلما كان بين المزدلفة ومنى برك الفيل ،ولم يقم ليقدم إلى الكعبة ،و كانوا كلما وجهوه إلى الجنوب أو الشمال أو الشرق يقوم يهرول ، وإذا صرفوه إلى الكعبة برك، فبينا هم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيرا أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول وكانت الطير أمثال الخطاطيف والبلسان (الخطاف طائر أسود، والبلسان: الزرزور) مع كل طائر ثلاثة أحجار ،حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص ،لا تصيب منهم أحدا إلا صار تتقطع أعضاؤه وهلك، وخرجوا هاربين يموج بعضهم في بعض فتساقطوا بكل طريق وهلكوا علي كل منهل، وأما أبرهة فبعث الله عليه داء تساقطت بسببه أنامله (أي أصابعه) ولم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل الفرخ، وانصدع صدره عن قلبه ثم هلك . وأما قريش فكانوا قد تفرقوا في الجبال خوفا على أنفسهم من الجيش، فلما نزل بالجيش ما نزل رجعوا إلى بيوتهم آمنين.
وفاة عبد الله والد الرسول صلى الله عليه وسلم»
اختار عبد المطلب لولده عبدالله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب وهي يومئذ تعد أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا، وأبوها سيد بنى زهرة نسبا وشرفا، فتزوجها عبدالله في مكة وبعد قليل أرسله عبد المطلب إلى المدينة يشتري لهم تمرا،فدخل المدينة وهو مريض، فتوفي بها ودفن في دار النابغة الجعدي، وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، وكانت وفاته قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما بلغ نعيه إلى مكة رثته آمنة بأروع الأشعار. وجميع ما خلفه عبدالله خمسة جمال وقطعة غنم ،وجارية حبشية اسمها بركة وكنيتها أم أيمن، وهي حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم
ولد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم بشعب بنى هاشم بمكة في صبيحة يوم الإثنين التاسع من شهر ربيع الأول ،لأول عام من حادثة الفيل ولأربعين سنة خلت من ملك كسرى أنوشروان ،ويوافق ذلك العشرين أو الثاني والعشرين من شهر إبريل سنة 571 م (إحدى وسبعين وخمسمائة). ويقال إن آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تحدث: أنها أتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد! ثم سميه محمدا. ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض الشام. وقد روي أن إرهاصات بالبعثة قد وقعت عند الميلاد فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى وخمدت النار التي يعبدها المجوس وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت (أي جف ماؤها) استقبل "عبد المطلب" ميلاد حفيده باستبشار، ولعله رأى في مقدمه عوضا عن ابنه الذي توفي في ريعان شبابه، فحول مشاعره عن الراحل الذاهب إلى الوافد الجديد يرعاه ويغالي به. ومن الموافقات الجميلة أن يلهم "عبد المطلب" تسمية حفيده "محمد". إنها تسمية أعانه عليها ملك كريم. ولم يكن العرب يألفون هذه الأعلام، لذلك سألوه لم رغب عن أسماء آبائه؟ فأجاب: أردت أن يحمده الله في السماء، وان يحمده الخلق في الأرض، فكأن هذه الإرادة كانت استشفافا للغيب، فإن أحدا من خلق الله لا يستحق إزجاء عواطف الشكر والثناء على ما أدى وأسدى كما يستحق ذلك النبي العربي المحمد.
الرضاعة
أول من أرضعت الرسول صلى الله عليه وسلم من المراضع بعد أمه كانت ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها يقال له مسروح، و كانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب وكانت العادة عند أهل الحضر من العرب (خلاف البدويين) أن يلتمسوا المراضع لأولادهم، ابتعادا لهم عن أمراض المدن؛ لتقوى أجسامهم، وتشتد أعصابهم، ويتقنوا اللسان العربي في مهدهم ، فالتمس عبد المطلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم المرضعات، واسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر ـ وهي حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية ـ وكان زوجها الحارث بن عبد العزى المكنى بأبي كبشة من نفس القبيلة . وإخوته صلى الله عليه وسلم هناك من الرضاعة عبدالله بن الحارث وأنيسة بنت الحارث، وحذافة أو جذامة بنت الحارث (وهي الشيماء) وكانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ،ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رأت حليمة من بركته صلى الله علية وسلم ما عجبت منه أشد العجب . كانت حليمة تحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها صغير ترضعه، في نسوة من بني سعد لجلب الرضعاء، وذلك في سنة مجدبة شديدة، خرجت على أنثى حمار بيضاء، ومعهم ناقة ليس فيها قطرة لبن، وأنهم لم يناموا طوال الليل من بكاء الصبي من الجوع، وليس في ثديها ما يكفيه، وما في الناقة ما يغذيه، وبسبب ضعف الأتان التي كانت تركبها حليمة فقد تأخرت عن باقي المرضعات حتى ضايقهم ذلك، حتى قدموا مكة، فما منهن امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أن كل واحدة منهن كانت ترجو المعروف من أبي الصبى، فكانت تقول: يتيم! وما عسى أن تصنع أمه وجده!. وفي نهاية اليوم لم تبق امرأة ليس معها رضيع، إلا حليمة، فلما هموا بالانصراف قالت حليمة لزوجها: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه! قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبت إليه فأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره فلما أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن؛ فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي ثم ناما، وما كنا ننام منه قبل ذلك. وقام زوجها إلى ناقتهم فإذا ضرعها مليء باللبن، فحلب منها و شرب، وشربت معه حليمة حتى انتهيا ريا وشبعا، فبات الجميع بخير ليلة! فقال زوجها: تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة! فقالت: والله إني لأرجو ذلك. ثم خرجوا وركبت حليمة الأتان العجفاء التي أتت عليها، وحملت النبي صلى الله عليه وسلم معها، فسبقت جميع المرضعات، حتى إن صواحبها ليقلن لها: يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك أربعي علينا (أي تمهلي) أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فتقول لهن: بلى والله إنها لهي ! فيقلن: والله إن لها لشأنا! ثم قدموا منازلهم من بلاد بني سعد، وليس في أرض الله أجدب منها؛ فكانت غنم حليمة ترعى وتعود شباعا مملوءة لبنا، فيحلبون، ويشربون، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع، حتى كان قومها من بني سعد يقولون لرعيانهم: ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعا ما فيها قطرة لبن، وتروح غنم حليمة شباعا تمتلىء لبنا. ولم تزل حليمة وأهلها يأتيهم من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتا الرضاعة وفصلته (أي فطمته). وكان صلى الله عليه وسلم يشب شبابا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما فتيا، فقدموا به على أمه وهم أحرص شيء على مكثه فيهم؛ لما كانوا يرون من بركته، فقالت حليمة لأمه آمنة: لو تركت بني عندي حتى غلظ، فإني أخاف عليه وباء مكة؟ وأخذوا يلحون عليها حتى ردته معهم، فرجعوا به.
حادثة شق الصدر
»
بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني سعد، حتى إذا كانت السنة الرابعة أو الخامسة من مولده وقع حادث شق صدره. روى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه (أي أغلق قلبه) ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه (يعني مر ضعته) فقالوا: إن محمدا قد قتل. تقول حليمة: فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدته قائما منتقعا وجهه، فالتزمته (أي فاحتضنته) والتزمه أبوه، فقلنا: مالك يا بني؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاني وشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدرى ما هو؟ فرجع به إلى خبائنا وقال لي أبوه: يا حليمة، لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به، فاحتملناه فقدمنا به على أمه؛ فقالت: ما أقدمك به يا ظئر (الظئر: المرضعة) وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك؟ فقلت: قد بلغ الله بابني وقضيت الذي علي، وتخوفت الأحداث عليه، فأديته إليك كما تحبين. قالت: ما هذا شأنك فاصدقيني خبرك. فلم تدعني حتى أخبرتها. قالت: أفتخوفت عليه الشيطان؟ قلت: نعم. قالت: كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، وإن لبني لشأنا، أفلا أخبرك خبره؟ قلت: بلى. قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء قصور بصرى، من أرض الشام، ثم حملت به فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف على ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض، رافع رأسه إلى السماء، دعيه عنك وانطلقي راشدة
وفاة آمنة أم الرسول صلى الله عليه وسلم وكفالة جده له
»
رأت آمنة وفاء لذكرى زوجها الراحل أن تزور قبره بيثرب فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ خمسمائة كيلو مترا ومعها ولدها اليتيم ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ وخادمتها أم أيمن ،وقيمها عبد المطلب، فمكثت شهرا، ثم رجعت، وبينما هي راجعة إذ يلاحقها المرض، ويلح عليها في أوائل الطريق، فماتت بالأبواء بين مكة والمدينة. وعاد به عبد المطلب إلى مكة ،وكانت مشاعر الحنان في فؤاده تزيد نحو حفيده اليتيم ، الذي أصيب بمصاب جديد نكأ الجروح القديمة ، فرق عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده ، فكان لا يدعه لوحدته ، بل يؤثره على أولاده ، وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة ، وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام صغير حتى يجلس عليه ، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه ، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم : دعوا ابني هذا فوالله إن له لشأنا ثم يجلس معه على فراشه ،ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع. ولثماني سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره صلى الله عليه وسلم توفي جده عبد المطلب بمكة ، ورأى قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه .
وفاة جده وكفالة عمه »
نهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه ،وضمه إلى أولاده ، وقدمه عليهم ، واختصه بفضل احترام وتقدير ، وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه ، ويبسط عليه حمايته ،ويصادق ويخاصم من أجله وظهرت بركة محمد صلى الله عليه وسلم وهو مع عمه في مواقف عديدة منها هذا الموقف: فقد حدث أن أصاب مكة جدب ، فقال بعض كبراء قريش لأبي طالب، يا أبا طالب أقحط الوادي، وأجدبت البلاد، فهلم نستسق فقال أبو طالب: نعم هلم بنا، فأحضر محمدا صلى الله عليه وسلم ليستسقي للقوم، وأخذ أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم وألصق ظهره بالكعبة، ثم أمسك بيديه ورفعهما إلي السماء ودعا، وبعد أن كانت السماء خالية ليس فيها سحابة واحدة، إذا بالسحاب يقبل من هنا وهناك ويملأ السماء، وإذا بالمطر يفيض على الوادي كله. وإلى هذا أشار أبو طالب حين قال: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه. وقد حج أحدهم في الجاهلية فإذا به برجل يطوف بالبيت وهو يرتجز ويقول: رب رد إلي راكبي محمدا رده إلي واصطنع عندي يدا فقال:من هذا؟ فقالوا: عبد المطلب بن هاشم، بعث بابن ابنه محمد في طلب إبل له ولم يبعثه في حاجة إلا نجح فيها، وقد أبطأ عليه، فلم يلبث أن جاء محمد والإبل فعانقه، وقال: يا بني لقد جزعت عليك جزعا لم أجزعه على شيء قط، والله لا أبعثك في حاجة أبدا، ولا تفارقني بعد هذا أبدا
بحيرا الراهب
»
خرج أبو طالب في قافلة تاجرا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل تعلق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا. فخرج به معه، فلما نزلت القافلة بصرى وبها راهب يقال له "بحيرا" في صومعة له، وكان أعلم أهل النصرانية، و كانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام، فلما نزلوا قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا. وذلك أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صومعته وفي الركب حين أقبلوا، وغمامة تظله من بين القوم، ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتدلت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته، ثم أرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش فإني أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم، وعبدكم وحركم. فقال له رجل منهم: والله يا بحيرا إن لك اليوم لشأنا، فما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم؟ قال له بحيرا: صدقت، كان قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلوا منه كلكم. فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرا في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده، فقال: يا معشر قريش، لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي، قالوا: يا بحيرا، ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام ، وهو أحدث القوم سنا فتخلف في رحالهم، فقال: لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم، فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى، إن كان للؤم بنا أن يتخلف ابن عبد المطلب عن طعام من بيننا ثم قام فاحتضنه وأجلسه مع القوم، فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرا فقال له: يا غلام، أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه ـ وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما ـ فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما فقال له بحيرا: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه. فقال له: سلني ما بدا لك. فجعل يسأله عن أشياء من حاله في قومه وهيئته وأموره فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته، ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده. فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني قال له بحيرا: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا. قال: فإنه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به. قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم! هذا سيد العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين .فقال أبو طالب: وما علمك بذلك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا وخر ساجدا، ولا تسجد إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا، وسأل أبا طالب أن يرده، ولا يقدم به إلى الشام، خوفا عليه من اليهود فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة.
حرب الفجار»
ولخمس عشرة سنة من عمره صلى الله عليه وسلم كانت حرب الفجار بين قريش ومن معهم من كنانة وبين قيس عيلان ،وكان قائد قريش وكنانة كلها حرب بن أمية لمكانته فيهم سنا وشرفا ،وكان الظفر في أول الأمر لقيس على كنانة ، وبعد ذلك كان الظفر لكنانة على قيس، وسميت بحرب الفجار لانتهاك حرمات الحرم والأشهر الحرم فيها ،وقد حضر هذه الحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ينبل على عمومته، أي يجهز لهم النبل للرمي. كانت حرب الفجار بالنسبة إلي قريش دفاعا عن قداسة الأشهر الحرم،ومكانة أرض الحرم .وهذه الشعائر بقية مما احترم العرب من دين إبراهيم وكان احترامها مصدر نفع كبير لهم ، وضمانا لانتظام مصالحهم وهدوء عداواتهم، ولكن أهل الجاهلية ما لبثوا أن ابتلوا بمن استباحها، فظلموا أنفسهم بالقتال في تلك الأشهر الحرم، وكانت حرب الفجار من آثار هذه الاستباحة الجائرة، وقد ظلت أربعة أعوام ،كان عمر محمد صلى الله عليه وسلم أثناءها بين الخمسة عشر والتسعة عشر.
حلف الفضول »
على إثر حرب الفجار وقع حلف الفضول في ذي القعدة في شهر حرام، تداعت إليه قبائل من قريش : بنو هاشم وبنو المطلب ،وأسد بن عبدالعزى ، وزهرة بن كلاب ، وتيم بن مرة ، فاجتمعوا في دار عبدالله بن جدعان التيمي لسنه وشرفه ، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه ،وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته ،وشهد هذا الحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وقال بعد أن أكرمه الله بالرسالة : لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت .
جد في الصبا وكفاح في الشباب
»
عاش محمد صلى الله عليه وسلم مع عمه حياة الكدح فليس من شأن الرجال أن يقعدوا،.ومن قبله كان المرسلون يأكلون من عمل أيديهم، ويحترفون مهنا شتى ليعيشوا على كسبها. وقد صح أن محمدا عليه الصلاة والسلام اشتغل صدر حياته برعي الغنم وقال:كنت أرعاها علي قراريط لأهل مكة، كما ثبت أن عددا من الأنبياء اشتغل برعايتها، وقد أحاطته العناية الإلهية وهو في تلك السن المبكرة من جميع مظاهر العبث أو اللهو التي كانت شائعة آنذاك، لقد جمع الله لنبيه منذ صغره خير ما في طبقات الناس من ميزات ،وكان طرازا رفيعا من الفكر الصائب والنظر السديد، ونال حظا وافرا من حسن الفطنة وأصالة الفكرة وسداد الوسيلة والهدف، وكان يستعين بصمته الطويل على طول التأمل وإدمان الفكرة واستنتاج الحق، وطالع بعقله الخصب وفطرته الصافية صحائف الحياة وشئون الناس وأحوال الجماعات فأبى ما فيها من خرافة ونأى عنها، ثم عايش الناس على بصيرة من أمره وأمرهم ، فما وجد حسنا شارك فيه، وإلا عاد إلى عزلته العتيدة ،فكان لا يشرب الخمر ،ولا يأكل مما ذبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيدا، ولا احتفالا، بل كان من أول نشأته نافرا من هذه المعبودات الباطلة ، حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها، وحتى كان لا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى. ولا شك أن القدر حاطه بالحفظ، فعندما تتحرك نوازع النفس لاستطلاع بعض متع الدنيا ،وعندما يرضى باتباع بعض التقاليد غير المحمودة تتدخل العناية الربانية للحيلولة بينه وبينها، روى ابن الأثير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمني برسالته، قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب ! فقال :أفعل ، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفا ، فقلت ما هذا ؟ فقالوا عرس فلان بفلانة ، فجلست أسمع فضرب الله على أذني فنمت ، فما أيقظني إلا حر الشمس فعدت إلى صاحبي فسألني ، فأخبرته ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك ،ودخلت بمكة فأصابني مثل أول ليلة .. ثم ما هممت بسوء". وروى البخاري عن جابر بن عبدالله قال: لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة ففعل فخر إلى الأرض، وطمحت عيناه إلى السماء (أي نظر لأعلى وتعلقت عيناه بالسماء) ثم أفاق فقال: إزاري، إزاري، فشد عليه إزاره، فما رؤيت له عورة بعد ذلك. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز في قومه بخلال عذبة وأخلاق فاضلة، وشمائل كريمة فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأعزهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وألينهم عريكة (العريكة: الطبيعة والمعاملة) وأعفهم نفسا، وأكرمهم خيرا، وأبرهم عملا، وأوفاهم عهدا، وآمنهم أمانة، حتى سماه قومه "الأمين"؛ لما جمع فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الخامسة والعشرين من سنه خرج تاجرا إلى الشام في مال خديجة رضى الله عنها ، وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال ، تستأجر الرجال في مالها ليتاجروا لها، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدما إلي الشام.
زواجه من السيدة خديجة رضى الله عنها
»
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم تاجرا في مال السيدة خديجة، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان يدعى نسطورا، فاطلع الراهب إلى ميسرة فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ قال له ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم. فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي! ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل عائدا إلى مكة ، فكان ميسرة إذا كانت الظهيرة واشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به فربح الضعف أو قريبا. ورأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تر قبل هذا، وأخبرها غلامها ميسرة بما رأى فيه صلى الله عليه وسلم من خلال عذبة، وشمائل كريمة، وفكر راجح، ومنطق صادق، ونهج أمين، وعرفت أنها وجدت ضالتها المنشودة ـ وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها، فتأبى عليهم ذلك ـ فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منية، وهذه ذهبت إليه صلى الله عليه وسلم تفاتحه أن يتزوج خديجة، فرضي بذلك، وكلم أعمامه فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه، وعلى إثر ذلك تم الزواج، وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر، وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين، وأصدقها عشرين من الإبل، وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة،وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسبا وثروة وعقلا، وهي أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت. وقد استأنف محمد عليه الصلاة والسلام ما ألفه بعد زواجه من حياة التأمل والعزلة. وهجر ما كان عليه العرب في احتفالاتهم الصاخبة من إدمان ولغو وقمار، وإن لم يقطعه ذلك عن إدارة تجارته،وتدبير معايشه، والضرب في الأرض والمشي في الأسواق. إن حياة الرجل العاقل وسط جماعة طائشة تقتضي ضروبا من الحذر والروية، وخصوصا إذا كان الرجل علي خلق عظيم يتسم بلين الجانب وبسط الوجه
بناء الكعبة وقضية التحكيم
»
ولخمس وثلاثين سنة من مولده صلى الله عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبة ،وذلك لأن الكعبة كانت عبارة عن حجارة مرصوصة ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إسماعيل ،ولم يكن لها سقف ، فسرق بعض اللصوص كنزها الذي كان في جوفها ، وكانت مع ذلك قد تعرضت ـ باعتبارها أثرا قديما ـ للعوامل الجوية التي أضعفت بنيانها ، وصدعت جدرانها . وقبل بعثه صلى الله عليه وسلم بخمس سنين جرف مكة سيل عرم ، انحدر إلى البيت الحرام ،فأوشكت الكعبة منه على الانهيار فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصا على مكانتها ،واتفقوا على أن لا يدخلوا في بنائها إلا طيبا ،فلا يدخلوا فيها مهر بغي ،ولا بيع ربا ،ولا مظلمة أحد من الناس ، وكانوا يهابون هدمها ، فابتدأ بها الوليد بن المغيرة المخزومي ،وتبعه الناس لما رأوا أنه لم يصبه شيء ، ولم يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم ،ثم أرادوا الأخذ في البناء ،فجزأوا الكعبة وخصصوا لكل قبيلة جزءا منها فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة وأخذوا يبنونها ،وتولى البناء بناء رومي اسمه باقوم، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه واستمر النزاع أربع ليال أو خمسا واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه ،وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوه هتفوا : هذا الأمين رضيناه ، هذا محمد ، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر طلب رداء ،فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعا بأطراف الرداء ،وأمرهم أن يرفعوه ، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه، وكان هذا حلا حصيفا رضى به القوم. ولم تكف النفقة الطيبة التي أخرجتها قريش تكاليف البناء، فأخرجوا من الجهة الشمالية نحوا من ستة أذرع ،وهي التي تسمي بالحجر والحطيم ،ورفعوا بابها من الأرض لئلا يدخلها إلا من أرادوا ،ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراعا سقفوه على ستة أعمدة.
الصلاة»
كان في أوائل ما نزل في الإسلام الأمر بالصلاة ، قال مقاتل بن سليمان: فرض الله في أول الإسلام الصلاة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى ،لقوله تعالى : ( وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار) وعن زيد بن حارثة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحي إليه أتاه جبريل ، فعلمه الوضوء ، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه ،وكان ذلك من أول الفريضة . وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه على بن أبي طالب مستخفيا من أبيه ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: أي عم، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم بعثني الله به رسولا إلى العباد، وأنت يا عم أحق من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه، فقال أبو طالب: أي ابن أخي، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت.
خبر الدعوة يصل إلي قريش إجمالا»
ترامت أنباء الدعوة إلى قريش فلم تعرها اهتماما ،ولعلها حسبت محمدا صلى الله عليه وسلم أحد أولئك الديانين الذين يتكلمون في الألوهية وحقوقها ، كما صنع أمية بن أبي الصلت ،وقس بن ساعدة ،وعمرو بن نفيل وأشباههم ، إلا أنها توجست خيفة من ذيوع خبره وامتداد أثره ،وأخذت ترقب على الأيام مصيره ودعوته . وظل النبي صلي الله عليه وسلم يدعو إلي الإسلام سرا مدة ثلاث سنوات.
الجهر بالدعوة
»
مرت ثلاث سنين والدعوة لم تزل سرية وفردية ،وخلال هذه الفترة تكونت جماعة من المؤمنين تقوم على الأخوة والتعاون ،وتبليغ الرسالة وتمكينها من مقامها، ثم نزل الوحي يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعالنة قومه ، ومجابهة باطلهم ومهاجمة أصنامهم . وأول ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية أنه دعا بني هاشم فحضروا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف فكانوا خمسة وأربعين رجلا . فبادره أبو لهب وقال : وهؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصباة واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة ، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك (أي اقصر دعوتك على أهلك فقط) ،وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش ، وتمدهم العرب ، فما رأيت أحدا جاء على بني أبيه بشر مما جئت به ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولم يتكلم في ذلك المجلس . ثم دعاهم ثانية وقال " الحمد لله أحمده وأستعينه ،وأومن به ، وأتوكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثم قال : إن الرائد لا يكذب أهله والله الذي لا إله إلا هو ، إنى رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة ،والله لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن بما تعملون ،وإنها الجنة أبدا أو النار أبدا ، "فقال أبو طالب ": ما أحب إلينا معاونتك ،وأقبلنا لنصيحتك ,وأشد تصديقنا لحديثك ،وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون ، وإنما أنا أحدهم غير أني أسرعهم إلى ما تحب ، فامض لما أمرت به فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك ، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب . فقال أبو لهب : هذه والله السوءة ، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم ، فقال أبو طالب :والله لنمنعه ما بقينا
على جبل الصفا
»
وبعدما تأكد النبي صلى الله عليه وسلم من تعهد أبي طالب بحمايته ، وهو يبلغ عن ربه ، قام يوما على الصفا فصرخ : يا صباحاه : فاجتمع إليه بطون قريش، فدعاهم إلى التوحيد والإيمان برسالته وباليوم الآخر. وقد روى البخاري طرفا من هذه القصة عن ابن عباس . قال: لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين) صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا ، فجعل ينادي يا بني فهر يا بنى عدي لبطون قريش، حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش .فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم :أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم ، أكنتم مصدقي؟ قالوا : نعم ، ما جربنا عليك إلا صدقا ،قال : فإنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد . فقال أبو لهب تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت ( تبت يدا أبي لهب ) . هذه الصيحة العالية هي غاية البلاغ ، فقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلات بينه وبينهم . وأن عصبية القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتي من عند الله. ولم يزل هذا الصوت يرتج دويه في أرجاء مكة حتى نزل قوله تعالى : ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) [15 : 94] فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يعكر على خرافات الشرك وترهاته ،ويذكر حقائق الأصنام وما لها من قيمة في الحقيقة ،يضرب بعجزها الأمثال ، ويبين بالبينات أن من عبدها وجعلها وسيلة بينه وبين الله فهو في ضلال مبين
رد فعل المشركين »
انفجرت مكة بمشاعر الغضب ، وماجت بالغرابة والاستنكار ، حين سمعت صوتا يجهر بتضليل المشركين وعباد الأصنام كأنه صاعقة قصفت السحاب ، فرعدت وبرقت وزلزلت الجو الهادئ وقامت قريش تستعد لحسم هذه الثورة التي اندلعت بغتة ، ويخشي أن تأتى على تقاليدها وموروثاتها . ولكن ماذا سيفعلون أمام رجل صادق أمين ، أعلى مثل للقيم البشرية ولمكارم الأخلاق ، لم يعرفوا له نظيرا ولا مثيلا خلال فترة طويلة من تاريخ الآباء والأقوام ؟ ماذا سيفعلون ؟ تحيروا في ذلك وحق لهم أن يتحيروا . فاجتمعت قريش للنبي صلي الله عليه وسلم يوما ، فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر ، فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعاب ديننا ، فليكلمه ولينظر ما يرد عليه ، قالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة ، قالوا : أنت يا أبا الوليد ، فأتاه عتبة فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت الرسول صلي الله عليه وسلم قال : أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت الرسول صلي الله عليه وسلم قال : فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت ، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك ، أما والله ما رأينا سخطة أشأم علي قومك منك ، فرقت جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعبت ديننا ، وفضحتنا في العرب حتى طار فيهم أن في قريش ساحرا ، وأن في قريش كاهنا ، ما ينتظر إلا مثل صيحة الحبلى بأن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى ، أيها الرجل : إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغني قريشا رجلا, وإن كان إنما بك الباءة فاختر آي نساء قريش فنزوجك عشرا ، فقال له الرسول صلي الله عليه وسلم : أفرغت ؟ قال : نعم فقال رسول صلي الله عليه وسلم : ( حم * تنزيل من الرحمن الرحيم ) حتى بلغ ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) فقال عتبة : حسبك ، ما عندك غير هذا ؟ قال : لا، فرجع إلي قريش فقالوا : ما وراءك ؟ فقال : ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته ، قالوا : هل أجابك ؟ قال : نعم ، قال : والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه قال أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، قالوا : ويلك يكلمك رجل بالعربية فلا تدرى ما قال ، قال : لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة . وبعد إدارة فكرتهم لم يجدوا سبيلا إلا أن يأتوا إلى عمه أبي طالب فيطلبوا منه أن يكف ابن أخيه عما هو فيه ، ورأوا لإلباس طلبهم لباس الجد والحقيقة أن يقولوا إن الدعوة إلى ترك آلهتهم ، والقول بعدم نفعها وقدرتها سبة قبيحة وإهانة شديدة لها ، وفيه تسفيه وتضليل لآبائهم الذين كانوا على هذا الدين ، وجدت قريش هذا السبيل فتسارعوا إلى سلوكها . فمشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب ، فقالوا : يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا ، وإما تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فنكفيكه فقال أبو طالب قولا رقيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه ، ومضى رسول صلي الله عليه وسلم على ما هو عليه ، يظهر دين الله ويدعو إليه
دار الأرقم»
كان من الحكمة تلقاء هذه الاضطهادات أن يمنع رسول الله صلى الله عليه المسلمين عن إعلان إسلامهم قولا أو فعلا ، وأن لا يجتمع بهم إلا سرا ؛ لأنه إذا اجتمع بهم علنا فلا شك أن المشركين يحولون بينه وبين ما يريد من تزكية المسلمين وتعليمهم الكتاب والحكمة ، وربما يفضي ذلك إلى تصادم الفريقين ، بل وقع ذلك فعلا في السنة الرابعة من النبوة ، وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجتمعون في الشعاب ، فيصلون فيها سرا فرآهم نفر من كفار قريش ، فسبوهم وقاتلوهم ، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلا فسال دمه ، وكان أول دم أهريق في الإسلام . ومعلوم أن المصادمة لو تعددت وطالت لأفضت إلى تدمير المسلمين وإبادتهم ، فكان من الحكمة الاختفاء ، فكان عامة الصحابة يخفون إسلامهم وعبادتهم ودعوتهم واجتماعهم ، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فكان يجهر بالدعوة والعبادة بين ظهراني المشركين ،لا يصرفه عن ذلك شئ ، ولكن كان يجتمع مع المسلمين سرا ؛ نظرا لصالحهم وصالح الإسلام ،وكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا ،وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم ، فاتخذها مركزا لدعوته ،ولاجتماعه بالمسلمين من السنة الخامسة من النبوة . وفي هذه الدار تربى الجيل الذي حمل لواء الإسلام بعد ذلك
الحبشة»
كانت بداية الاضطهادات في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة، بدأت ضعيفة ثم لم تزل يوما فيوما وشهرا فشهرا حتى اشتدت وتفاقمت في أواسط السنة الخامسة ، حتى ضاق بهم المقام في مكة ، وراحوا يفكرون في حيلة تنجيهم من هذا العذاب الأليم وفي رجب سنة خمس من النبوة هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة، كان مكونا من اثني عشر رجلا وأربع نسوة ،رئيسهم عثمان بن عفان ، ومعه السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم: إنهما أول بيت هاجر في سبيل الله بعد إبراهيم ولوط عليهما السلام . كان رحيل هؤلاء تسللا في ظلمة الليل حتى لا تفطن لهم قريش، خرجوا إلى البحر ، واتجهوا إلى ميناء شعيبة، وقيضت لهم الأقدار سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة، وفطنت لهم قريش ، فخرجت في آثارهم ،لكن لما بلغت إلى الشاطئ كانوا قد انطلقوا آمنين ،وأقام المسلمون في الحبشة في أحسن جوار. وفي رمضان من نفس السنة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرم ، وهناك جمع كبير من قريش ، كان فيه ساداتها وكبراؤها ،فقام فيهم ، وأخذ يتلو سورة النجم بغتة ، إن أولئك الكفار لم يكونوا سمعوا كلام الله قبل ذلك ،لأن أسلوبهم كان هو العمل بما تواصى به بعضهم بعضا، من قولهم: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) [26:41] فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة ، وقرع آذانهم كلام إلهي رائع خلاب، لا يحيط بروعته وجلالته البيان، بقي كل واحد مصغيا إليه ، لا يخطر بباله شئ سواه ، حتى إذا تلا في خواتيم هذه السورة قوارع تطير لها القلوب ثم قرأ ( فاسجدوا لله واعبدوا ) [62:53] ثم سجد ، لم يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجدا، وفي الحقيقة كانت روعة الحق قد صدعت العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين، فما تمالكوا أن يخروا لله ساجدين. وأسقط في أيديهم لما أحسوا أن جلال كلام الله لوى زمامهم ، فارتكبوا عين ما كانوا يبذلون قصارى جهدهم في محوه وإفنائه ،وقد توالى عليهم اللوم والعتاب من كل جانب ، ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين، وعند ذلك كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم بكلمة تقدير ، وأنه قال عنها: "تلك الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى" جاءوا بهذا الإفك المبين ، ليعتذروا عن سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يستغرب هذا من قوم كانوا يؤلفون الكذب ، ويطيلون الدس والافتراء. وبلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة ،ولكن في صورة تختلف تماما عن صورته الحقيقية ، بلغهم أن قريشا أسلمت ، فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة ، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار ، وعرفوا جلية الأمر ، رجع منهم من رجع إلى الحبشة ، ولم يدخل مكة منهم أحد إلا مستخفيا ، أو في جوار رجل من قريش . ثم اشتد عليهم وعلى المسلمين البلاء والعذاب من قريش وسطت بهم عشائرهم ، فقد كان صعب على قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الجوار ،ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم بدا من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى ،وكانت هذه الهجرة الثانية أشق من سابقتها ، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها ، بيد أن المسلمين كانوا أسرع ويسر الله لهم السفر ، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا. وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلا ،وثمان عشرة أو تسع عشرة امرأة
قريش تحاول اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم
»
وبعد فشل قريش وخيبتهم مع أبي طالب عادوا إلى ضراوتهم وتنكيلهم بأشد مما كان قبل ذلك ، وخلال هذه الأيام نشأت في طغاتهم فكرة إعدامه صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه الفكرة وتلك الضراوة هي التي تسببت في تقوية الإسلام ببطلين جليلين من أبطال مكة، وهما: حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضى الله عنهما. فمن تلك الضراوة أن عتيبة بن أبي لهب أتى يوما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنا أكفر بـ (النجم إذا هوي) و (بالذي دنا فتدلى ) ثم تسلط عليه بالأذى ، وشق قميصه ، وتفل في وجهه ، إلا أن البزاق لم يقع عليه ، وحينئذ دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ،وقد استجيب دعاؤه صلى الله عليه وسلم ، فقد خرج عتيبة مرة في نفر من قريش ، حتى نزلوا في مكان من الشام يقال له الزرقاء ، فطاف بهم الأسد تلك الليلة ، فجعل عتيبة يقول : يا ويل أخي ، وهو والله آكلي كما دعا محمد علي، قتلني وهو بمكة، وأنا بالشام، فغدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ برأسه فقتله. ومنها ما ذكر أن عقبة بن أبي معيط وطئ على رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان . ومما يدل على أن طغاتهم كانوا يريدون قتله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن إسحاق في حديث طويل قال : قال أبوجهل : يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ،وتسفيه أحلامنا ،وشتم آلهتنا ، وإني أعاهد الله لأجلسن له بحجر ما أطيق حمله ، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه ، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني ، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم ، قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدا، فامض لما تريد . فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجرا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، فقام يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ، ينتظرون ما أبوجهل فاعل ، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره ، حتى قذف الحجر من يده وقامت إليه رجال قريش فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم ؟قال قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة ، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل ، ولا والله ما رأيت مثل هامته ، ولا مثل قصرته (أي عنقه) ولا أنيابه لفحل قط فهم بي أن يأكلني . فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه . أما طغاة فريش فلم تزل فكرة الإعدام تنضج في قلوبهم ، روى ابن إسحاق عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر ، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل ، لقد صبرنا منه على أمر عظيم ، فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل يمشي حتى استلم الركن ،ثم مر بهم طائفا بالبيت ، فغمزوه ببعض القول ، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها ، فعرفت ذلك في وجهه ، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها ، فوقف ثم قال : أتسمعون يا معشر قريش ، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح ، فأخذت القوم كلمته ، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد ،ويقول : انصرف يا أبا القاسم ، فوالله ما كنت جهولا . فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، وأحاطوا به ، فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه ، وقام أبو بكر دونه ، وهو يبكي ويقول : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟
وفاة أبي طالب
»
ألح المرض بأبي طالب ، فلم يلبث أن وافته المنية ،وكانت وفاته في رجب سنة عشر من النبوة بعد الخروج من الشعب بستة أشهر ولما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل ، فقال : أي عم قل : لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر شئ كلمهم به : على ملة عبد المطلب فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ،فنزلت : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) ونزلت (إنك لا تهدي من أحببت ) ومع أن أبا طالب كان الحصن الذي تحتمي به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء ، إلا أنه بقي على ملة الأشياخ من أجداده ، فلم يفلح كل الفلاح . ففي الصحيح عن العباس بن عبدالمطلب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما أغنيت عن عمك ، فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟قال : هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار.
وفاة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد
»
وبعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين توفيت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، كانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشرة من النبوة ولها خمس وستون سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في الخمسين من عمره . إن خديجة كانت من نعم الله الجليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقيت معه ربع قرن تحن عليه ساعة قلقه وتؤازره في أحرج أوقاته، وتعينه على إبلاغ رسالته، وتشاركه في مغارم الجهاد المر وتواسيه بنفسها ومالها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس ، ورزقني الله ولدها، وحرم ولد غيرها. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال : أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه خديجة، قد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب
عام الحزن
»
وفيه وقعت حادثتان مؤلمتان، وفاة أبي طالب ثم خديجة أم المؤمنين، خلال أيام معدودة ،فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه ، فقد تجرأوا عليه ،وكاشفوه بالأذى بعد موت أبي طالب ،فازداد غما على غم ،حتى يئس منهم ,وخرج إلى الطائف ، رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يئووه وينصروه على قومه ، فلم ير من يئوي ولم ير ناصرا، وآذوه مع ذلك أشد الأذى ونالوا منه ما لم ينله قومه. وكما اشتدت وطأة أهل مكة على النبي صلى الله عليه وسلم اشتدت على أصحابه، حتى التجأ رفيقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الهجرة عن مكة فخرج حتى بلغ برك الغماد ، يريد الحبشة فأرجعه ابن الدغنة في جواره قال ابن إسحاق : لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا ، ودخل بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها:لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك، قال ويقول بين ذلك : ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب . ولأجل توالي مثل هذا الآلام في هذا العام سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحزن، وبهذا اللقب صار معروفا في التاريخ ومع هذا كله كان المسلمون يعرفون منذ أول يوم لاقوا فيه الشدة والاضطهاد ـ بل ومن قبله ـ أن الدخول في الإسلام ليس معناه جر المصائب والحتوف، بل إن الدعوة الإسلامية تهدف ـ منذ أول يومها إلى القضاء على الجاهلية الجهلاء ونظامها الغاشم، وأن من أهدافها الأساسية بسط النفوذ على الأرض والسيطرة على الموقف السياسي في العالم ، لتقود الأمة الإنسانية والجمعية البشرية إلى مرضاة الله . وتخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله . وكان القرآن ينزل بهذه البشارات ـ مرة بالتصريح وأخرى بالكناية ـ ففي تلك الفترات القاصمة التي ضيقت الأرض على المسلمين وكادت تخنقهم ،وتقضي على حياتهم ،كانت تنزل الآيات بما جرى بين الأنبياء السابقين وبين أقوامهم الذين قاموا بتكذيبهم والكفر بهم ، وكانت تشتمل هذه الآيات على ذكر الأحوال التي تطابق تماما أحوال مسلمي مكة وكفارها، ثم تذكر هذه الآيات ما تمخضت عنه تلك الأحوال من إهلاك الكفرة والظالمين وإيراث عباد الله الأرض والديار، فكانت في هذه القصص إشارات واضحة إلى فشل أهل مكة في المستقبل ونجاح المسلمين مع نجاح الدعوة الإسلامية. قال خباب بن الأرت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده ، وهو في ظل الكعبة ،وقد لقينا من المشركين شدة ، فقلت: ألا تدعو الله ، فقعد وهو محمر وجهه ، فقال : لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه ،وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون . ولم تكن هذه البشارات مخفية مستورة بل كانت فاشية مكشوفة ، يعلمها الكفرة ، كما كان يعلمها المسلمون ، حتى كان الأسود بن المطلب وجلساؤه إذا رأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تغامزوا بهم، وقالوا: قد جاءكم ملوك الأرض سيغلبون على ملوك كسرى وقيصر ثم يصفرون ويصفقون . وأما هذه البشارات بالمستقبل المجيد المستنير في الدنيا ، مع ما فيه من الرجاء الصالح الكبير البالغ إلى النهاية في الفوز بالجنة ، كان الصحابة يرون أن الاضطهادات التي تتوالى عليهم من كل جانب ،والمصائب التي تحيط بهم من كل الأرجاء ، ليست إلا "سحابة صيف عن قليل تقشع " هذا ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يغذي أرواحهم برغائب الإيمان ، ويزكي نفوسهم بتعليم الحكمة والقرآن ، ويربيهم تربية دقيقة عميقة ، يعلو بنفوسهم إلى منازل سمو الروح ونقاء القلب ، ونظافة الخلق ، والتحرر من سلطان الماديات ،والمقاومة للشهوات ، والنزوع إلى رب الأرض والسماوات ،ويذكي جمرة قلوبهم ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ،ويأخذهم بالصبر على الأذى والصفح الجميل وقهر النفس، فازدادوا رسوخا في الدين ،وعزوفا عن الشهوات ،وتفانيا في سبيل مرضاة الله، وحنينا إلى الجنة ،وحرصا على العلم ، وفقها في الدين ومحاسبة للنفس ، وقهرا للشهوات، وغلبة على العواطف ، وتسيطرا على الثائرات والهائجات، وتقيدا بالصبر والهدوء والوقار.
استماع الجن للنبي صلى الله عليه وسلم وإيمانهم
»
عندما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلي مكة مكث بوادي نخلة أياما، وحدث أن قام صلى الله عليه وسلم، من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى وهم سبعة نفر من جن أهل نصيبين فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا. وقد ذكرهم الله في موضعين من القرآن في سورة الأحقاف ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم وفي سورة الجن ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا) إلى تمام الآية الخامسة عشرة . وحقا كان هذا الحادث نصرا آخر أمده الله من كنوز غيبه المكنون بجنوده التي لا يعلمها إلا هو، ثم إن الآيات التي نزلت بصدد هذا الحادث كانت في طيها بشارات بنجاح دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أي قوة من قوات الكون لا تستطيع أن تحول بينها وبين نجاحها ( ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء ،وأولئك في ضلال مبين ) ( وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا)
عرض الإسلام على القبائل
»
في ذي القعدة سنة عشر من النبوة ـ في أواخر يونيو أو أوائل يوليو لسنة 619 م ـ عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ؛ليستأنف عرض الإسلام على القبائل والأفراد ،ولاقتراب الموسم كان الناس يأتون إلى مكة رجالا ، وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ، لقضاء فريضة الحج وليشهدوا منافع لهم ،ويذكروا الله في أيام معلومات، فانتهز رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفرصة كالعادة، فأتاهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم الإسلام ، ويدعوهم إليه ،كما كان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة .. و من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم وعرض نفسه عليهم بنو عامر بن صعصعة ، ومحارب بن خصفة وفزارة ،وغسان ، ومرة ، وحنيفة، وسليم ،وعبس ، وبنو نصر ، وبنو البكاء ،،وكندة ،وكلب ،والحارث بن كعب ،وعذرة ،والحضارمة ، فلم يستجب منهم أحد يقول ربيعة بن عباد. وهو أحد من حضر ذلك الموسم: إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول: يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني، حتى أبين عن الله ما بعثني به. وخلفه رجل أحول وضيء (أي جميل نظيف) له غديرتان (أي ضفيرتان) عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه، قال هذا الرجل: يا بني فلان، إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من بني مالك بن أقيش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه. فقلت لأبي: من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب، أبو لهب. وأتى كندة في منازلهم، وفيهم سيد يقال له مليح، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه. وأتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له "بيحرة بن فراس": والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر (أي الحكم والملك) من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء، فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه. فلما عاد الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كانت أدركته السن حتى لا يقدر أن يحضر معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا، فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف، هل لذناباها من مطلب (يقصد هل هناك سبيل لتدارك الموقف واللحاق بهذا الشرف) والذي نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلي قط (أي من بني إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام) وإنها لحق فأين رأيكم كان عنكم. كذلك أتى صلى الله عليه وسلم بني حنيفة في منازلهم فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردا منهم. وأتى بطنا من بني كلب يقال لهم بنو عبد الله،فدعاهم إلى الله،وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول لهم: يا بني عبد الله،إن الله قد أحسن اسم أبيكم، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره، كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله من الهدى والرحمة، ولا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب، له اسم وشرف إلا تصدى له فدعاه وعرض عليه ما عنده.
الإسراء والمعراج وفرض الصلاة
»
وبينما النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة التي كانت دعوته تشق فيها طريقا بين النجاح والاضطهاد ،وكانت تتراءى نجوم ضئيلة تتلمح في آفاق بعيدة ،وقع حادث الإسراء والمعراج . وقد اختلف في تعيين زمنه،والراجح أن الإسراء إنما وقع إما قبيل بيعة العقبة الأولى أو بين بيعتي العقبة الأولى والثانية، وفي هذه الحادثة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ، بجسده على الصحيح ، من المسجد الحرام إلى بيت المقدس راكبا على البراق صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام ، فنزل هناك ، وصلى بالأنبياء إماما ، وربط البراق بحلقة باب المسجد ، وقد حكى النبي صلى الله عليه وسلم تفاصيل تلك الرحلة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينا أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا فعدت إلى مضجعي؛ فجاءني الثانية فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا، فعدت إلى مضجعي؛ فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه، فجلست فأخذ بعضدي، فقمت معه، فخرج بي إلى باب المسجد، فإذا دابة أبيض، بين البغل والحمار، في فخذيه جناحان يحفز بهما (أي يدفع) رجليه، يضع يده في منتهى طرفه، فحملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته. قال الحسن في حديثه: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى جبريل عليه السلام معه حتى انتهى به إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء عليهم السلام فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ثم عرج به في تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا ، فاستفتح له جبريل ففتح له ، فرأى هنالك آدم أبا البشر ، فسلم عليه فرحب به ،ورد عليه السلام ، وأقر بنبوته ، وأراه الله أرواح الشهداء عن يمينه وأرواح الأشقياء عن يساره . ثم عرج به إلى السماء الثانية ، فاستفتح له ، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم ، فلقيهما وسلم عليهما فردا عليه ، ورحبا به ،وأقرا بنبوته . ثم عرج به إلى السماء الثالثة ، فرأى فيها يوسف ، فسلم عليه ،فرد عليه ورحب به وأقر بنبوته . ثم عرج به إلى السماء الرابعة ، فرأى فيها إدريس ،فسلم عليه ،ورحب به وأقر بنبوته . ثم عرج به إلى السماء الخامسة فرأى فيها هارون بن عمران ، فسلم عليه ، ورحب به ، وأقر بنبوته. ثم عرج به إلى السماء السادسة فلقي فيها موسى بن عمران ، فسلم عليه ورحب به ، وأقر بنبوته . فلما جاوزه بكى موسى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : أبكي لأن غلاما بعث من بعدي يدخل من الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي . ثم عرج إلى السماء السابعة ، فلقي فيها إبراهيم عليه السلام ، فسلم عليه ، ورحب به وأقر بنبوته . ثم رفع إلى سدرة المنتهى ، ثم رفع له البيت المعمور . ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله ،فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ، وفرض عليه خمسين صلاة ، فرجع حتى مر على موسى ، فقال له : بم أمرك ؟ قال بخمسين صلاة : قال : إن عشيرتك لا تطيق ذلك ، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ،فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار أن نعم ، إن شئت، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى، وهو في مكانه، فوضع عنه عشرا ، ثم أنزل حتى مر بموسى ،فأخبره ،فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عز وجل ،حتى جعلها خمسا ،فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف ، فقال قد استحييت من ربي ، ولكني أرضى وأسلم، فلما بعد نادى مناد : قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي وقد وقع حادث شق صدره صلى الله عليه وسلم هذه المرة أيضا، وقد رأى ضمن هذه الرحلة أمورا عديدة: عرض عليه اللبن والخمر فاختار اللبن فقيل: هديت الفطرة أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك. ورأى أربعة أنهار في الجنة نهرين ظاهران ونهران باطنان، والظاهران هما النيل والفرات، ومعنى ذلك أن رسالته ستتوطن الأودية الخصبة في النيل والفرات، وسيكون أهلها حملة الإسلام جيلا بعد جيل، وليس معناه أن مياه النهرين تنبع من الجنة، ورأى مالك خازن النار، وهو لا يضحك، وليس على وجهه بشر وبشاشة وكذلك رأى الجنة والنار. ورأى أكلة أموال اليتامى ظلما لهم مشافر كمشافر الإبل، يقذفون في أفواههم قطعا من نار كالأفهار(أي كالأحجار) فتخرج من أدبارهم. ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة، لا يقدرون لأجلها أن يتحولوا عن مكانهم، ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار فيطئونهم. ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن، ويتركون الطيب السمين. ورأى النساء اللاتي يدخلن على الرجال من ليس من أولادهم، رآهن معلقات بثديهن. ورأى عيرا من أهل مكة في الإياب والذهاب وقد دلهم على بعير ند لهم (أي تاه) ، وشرب ماءهم من إناء مغطى وهم نائمون ثم ترك الإناء مغطى، وقد صار ذلك دليلا على صدق دعواه في صباح ليلة الإسراء. قال ابن القيم: فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى فاشتد تكذيبهم له وأذاهم واستضرارهم عليه، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس فجلاه الله له، حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته، ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئا، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها وكان الأمر كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا نفورا، وأبى الظالمون إلا كفورا. فقال أكثر الناس: "هذا والله الإمر البين (الأمر أي العجيب المنكر) والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة. قال: فارتد كثير ممن كان أسلم، وذهب الناس إلى أبي بكر فقالوا له: هل لك يا أبا بكر في صاحبك، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة، فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه. فقالوا: بلى هاهو ذاك في المسجد يحدث به الناس، فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك، فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: نعم. قال: يا نبي الله فصفه لي، فإني قد جئته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرفع لي حتى نظرت إليه. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفه لأبي بكر ويقول أبو بكر صدقت، أشهد أنك رسول الله. حتى إذا انتهى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: وأنت يا أبا بكر الصديق. فيومئذ سماه "الصديق".
الهجرة إلى المدينة»
هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم عندما اشتد أذى قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم أذن الله لرسوله بالهجرة إلى المدينة حيث أنصار الله ورسوله.وفى الليلة التى إختارتها قريش لتنفيذ جريمة القتل فى سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم وبعد أن حاصروه فى بيته ليقتلوه، أعمى جبار السموات والأرض أعينهم عن نبيه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وأخرجه من بينهم دون أن يروه،وقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أبى بكر فاصطحبه معه فى طريق هجرته. ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشا ستتبعه لتقتله وأنهم لا شك سيفكرون أنه خرج يقصد اصحابه فى المدينة إلى الشمال من مكه فقد اتجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكمته جنوبا ليضللهم حتى وصل إلى جبل ثور، وكمن هو وأبو بكر فى غار فى قمة الجبل ثلاثة أيام حتى يهدأ الطلب. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وابو بكر قد استأجرا عبد الله بن أريقط ليدلهما على الطريق، فخرج بهما بعد ثلاثة أيام إلى المدينة متجنبا فى ذلك الطريق الطبيعى إليها وسالكا طريقا أخرى مهجورة لا يعرفها إلا قليل من الناس، حتى وصل إلى قباء فتلقاه المسلمون هناك وقد حملوا السلاح إيذانا ببدء عهد النصرة والمنعة.
طلائع الهجرة»
وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية، ونجح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة ـ وهو أخطر كسب حصل عليه الإسلام منذ بداية دعوته ـ أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى هذا الوطن. ولم يكن معنى الهجرة إلا إهدار المصالح، والتضحية بالأموال، والنجاة بالنفس فحسب، مع الإشعار بأنه مستباح منهوب، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها، وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدري ما يسفر عنه من قلاقل وأحزان. وبدأ المسلمون يهاجرون وهم يعرفون كل ذلك، وأخذ المشركون يحولون بينهم وبين خروجهم، لما كانوا يحسون من الخطر، وهاك نماذج من ذلك: 1 ـ كان من أول المهاجرين أبو سلمة، هاجر قبل العقبة الكبرى بسنة هو وزوجته وابنه، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ فأخذوا منه زوجته، وغضب آل أبي سلمة لرجلهم، فقالوا: لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم فخلعوا يده، وذهبوا به. وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة، وكانت أم سلمة بعد ذهاب زوجها وضياع ابنها تخرج كل غداة بالأبطح تبكي حتى تمسى، ومضى على ذلك نحو سنة، فرق لها أحد ذويها وقال: ألا تخرجون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وولدها فقالوا لها: الحقي بزوجك إن شئت، فاسترجعت ابنها من عصبته، وخرجت تريد المدينة ـ رحلة تبلغ خمسمائة كيلو متر ـ وليس معها أحد من خلق الله، حتى إذا كانت بالتنعيم لقيها عثمان بن طلحة بن أبى طلحة، وبعد أن عرف حالها شيعها حتى أقدمها إلى المدينة، فلما نظر إلى قباء قال: زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعا إلى مكة. 2 ـ ولما أراد صهيب الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ربح صهيب ربح صهيب. 3 ـ وتواعد عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل موضعا يصبحون عنده، ثم يهاجرون إلى المدينة، فاجتمع عمر وعياش وحبس عنهما هشام. ولما قدما المدينة ونزلا بقباء قدم أبو جهل وأخوه الحارث إلى عياش ـ وأم الثلاثة واحدة ـ فقالا له: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط ، ولا تستظل بشمس حتى تراك، فرق لها. فقال له عمر: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم ، فوالله لو آذى أمك القمل لامتشطت، ، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت، فأبي عياش إلا الخروج معهما؛ ليبر قسم أمه، فقال له عمر: أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا ابن أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى، فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة نهارا موثقا، وقالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا. هذه ثلاثة نماذج لما كان المشركون يفعلونه بمن يريد الهجرة إذا علموا بذلك. ولكن مع كل ذلك خرج الناس أرسالا يتبع بعضهم بعضا. وبعد شهرين وبضعة أيام من بيعة العقبة الكبرى لم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوبكر وعلي اللذان أقاما بأمره لهما، وإلا من احتبسه المشركون كرها، وقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج وأعد أبو بكر جهازه. روى البخاري عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين، إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين (اللابة: أرض يعلوها حجارة سود، وكان يحيط بالمدينة جبلان من الحجارة السود) فهاجر من هاجر إلى المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر للهجرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال له أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه
مطاردة قريش للنبي صلي الله عليه وسلم
»
غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة 27 من شهر صفر سنة 14 من النبوة الموافق 13 سبتمبر سنة 622 م. وأتى إلى دار رفيقه أبي بكر رضي الله عنه. ثم غادرا منزل الأخير من باب خلفي ليخرجا من مكة على عجل، وقبل أن يطلع الفجر. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشا ستجتهد في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالا، فقد سلك الطريق الذي يضاده تماما، وهو الطريق الواقع جنوب مكة، والمتجه نحو اليمن. سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال، حتى بلغ جبلا يعرف بجبل ثور، وهذا جبل شامخ، وعر الطريق، صعب المرتقى، ذا أحجار كثيرة، فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمله أبو بكر حتى انتهى به إلى غار في قمة الجبل، عرف في التاريخ بغار ثور. ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شئ أصابني دونك، فدخل فنظر فيه، ووجد في جانبه ثقبا فشق إزاره وسدها به، وبقي منها اثنان فوضع فيهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع رأسه في حجرأبي بكر ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مالك يا أبا بكر؟ قال: لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب ما يجده. وكمنا في الغار ثلاث ليال، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد. وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما. وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهارا ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر. وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهارا ثم يريحها عليهما،ويأتيهما إذا أمسى في الغار، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما. أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله صلى الله عليه وسلم صباح ليلة تنفيذ المؤامرة. فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا عليا، وسحبوه إلى الكعبة وحبسوه ساعة، علهم يظفرون بخبرهما. ولما لم يحصلوا من علي على شيء جاءوا إلى بيت أبي بكر، وطرقوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها: أين أبوك؟ قالت: لا أدري والله أين أبي؟ فرفع أبو جهل يده فلطم خدها لطمة طرح منها قرطها. وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين، فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة (في جميع الجهات) تحت المراقبة المسلحة الشديدة، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين، كائنا من كان. وحينئذ هب الفرسان والمشاة وقصاص الأثر، وانتشروا في الجبال والوديان، والوهاد والهضاب، لكن دون جدوى وبغير عائد. وقد وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره، روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرفعت رأسي، فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: اسكت يا أبا بكر، ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما. وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة.
في الطريق إلي المدينة »
بعد أن خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه للخروج إلى المدينة. وكانا قد استأجرا عبدالله بن أريقط الليثي، وكان دليلا ماهرا بالطريق، وكان على دين كفار قريش، وأمناه على الرغم من ذلك، وسلما إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما، فلما كانت ليلة الاثنين ـ غرة ربيع الأول سنة 1 هـ / 16 سبتمبر سنة 622 م ـ جاءهما عبدالله بن أريقط بالراحلتين وحينئذ قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت يا رسول الله، خذ إحدى هاتين، وقرب إليه أفضلهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن. وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها رباطا، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها رباط، فشقت نطاقها باثنين (النطاق ما يربط به الوسط كالحزام) فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر، فسميت ذات النطاقين. ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وارتحل معهما عامر بن فهيرة، وأخذهم الدليل عبدالله بن أريقط على طريق السواحل. وأول ما سلك بهم بعد الخروج من الغار أنه سار في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غربا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس اتجه شمالا على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقا لم يكن يسلكه أحد إلا نادرا. ووقع لهم في الطريق بعض الأحداث منها ما رواه 1لبخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: أسرينا ليلتنا (أي سرنا تلك الليلة) ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق، لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليها الشمس، فنزلنا عندها، وسويت للنبي صلى الله عليه وسلم مكانا بيدي، ينام عليه، وبسطت عليه فروة، وقلت: نم يا رسول الله، وأنا أنفض (أي أراقب) لك ما حولك، فنام، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها مثل الذي أردنا (أي الراحة) فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ فقال رجل من أهل المدينة أو مكة. قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم. قلت: أفتحلب ؟ قال: نعم. فأخذ شاة، فقلت: انفض الضرع من التراب والشعر والقذى، فحلب في كعب كثبة من لبن (الكثبة: القليل من الماء أو اللبن أو الطعام) ومعي إداوة (وعاء) حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم يرتوي منها يشرب ويتوضأ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين استيقظ، فصببت من الماء على اللبن حتى برد أسفله، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قال: ألم يأن الرحيل؟ قلت: بلى، قال: فارتحلنا. وكان من عادة أبي بكر رضي الله عنه أنه كان يركب خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وكان شيخا يعرف، ونبي الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول هذا الرجل يهديني الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعني به الطريق، وإنما يعني سبيل الخير. وتبعهما في الطريق سراقة بن مالك،أتاه رجل وهو جالس في مجلس من مجالس قومه بني مدلج، فقال: يا سراقة إني رأيت آنفا خيالا بالساحل، أراه محمدا وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم ولكنني قلت له: إنهم ليسوا هم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا الآن أمام أعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج فرسي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، ثم أتيت فرسي، فركبتها، حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت، ففتحت كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام (وهي عصي كان يصنعها المشركون يستشيرون بها آلهتهم) فاستقسمت بها (أي عملت قرعة) أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام، واقتربت حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات ـ غاصت يدا فرسي في الأرض، ، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر وأنه ممنوع مني، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني (أي لم يأخذا مني شيئا) ولم يسألاني إلا أن قال: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتابا بالأمن يكون آية بيني وبينه، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب له، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومر صلى الله عليه وسلم في مسيره ذلك حتى مر بخيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة تطعم وتسقي من مر بها، فسألاها: هل عندها شئ؟ فقالت: والله لو كان عندنا شئ ما حجبته عنكم فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في جانب الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة ضعيفة ليس بها لبن، فقال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: نعم بأبي وأمي، إن رأيت بها حلبا فاحلبها. فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، فدر اللبن بغزارة، فدعا بإناء كبير يكفي جماعة، فحلب فيه حتى علته الرغوة، فسقاها، فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب، وحلب فيها ثانيا، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها فارتحلوا. فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق عنزات عجافا، فلما رأى اللبن عجب، فقال: من أين لك هذا ولا حلوبة في البيت؟ فقالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، ومن حاله كذا وكذا، قال: إني والله أراه صاحب قريش الذي تطلبه، صفيه لي يا أم معبد، فوصفته بصفاته الرائعة بكلام رائع كأن السامع ينظر إليه وهو أمامه فقال أبو معبد: والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا، لقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا، وأصبح صوت بمكة عاليا يسمعونه ولا يرون القائل: جزى الله رب العرش خير جزائه رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر وارتحلا به وأفلح من أمسى رفيق محمد فيا لقصي ما روى الله عنكم به من فعال لا يحاذى وسؤدد ليهن بني كعب مكان فتاتهم ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد قالت أسماء: ما درينا أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة فأنشد هذه الأبيات، والناس يتبعونه ويسمعون صوته ولا يرونه، حتى خرج من أعلاها. قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجهته إلى المدينة. وفي الطريق لقي النبي صلى الله عليه وسلم أبا بريدة، وكان رئيس قومه، خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر؛ رجاء أن يفوز بالمكافأة الكبيرة التي كانت قد أعلنت عنها قريش، ولما واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه أسلم مكانه مع سبعين رجلا من قومه، ثم نزع عمامته وعقدها برمحه، فاتخذه راية تعلم بأن ملك الأمن والسلام قد جاء ليملأ الدنيا عدلا وقسطا. وفي الطريق لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير، و هو في ركب المسلمين، كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضاء.
النبي صلى الله عليه وسلم ينزل قباء ويبنى بها أول مسجد في الإسلام
»
وفي يوم الاثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة ـ وهي السنة الأولى من الهجرة ـ الموافق 23 سبتمبر سنة 622 م نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء. وكان المسلمون بالمدينة قد علموا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يخرجون كل صباح إلى أطراف المدينة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فرجعوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم. فلما دخلوا إلى بيوتهم طلع رجل من يهود على قلعة من قلاعهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يرتدون ثيابا بيضا، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم (أي حظكم) الذي تنتظرون، وكبر المسلمون فرحا بقدومه، وخرجوا للقائه، وتجمعوا حوله، والسكينة تغشاه، والوحي نزل عليه: { فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} [ 4:66] فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فأخذ من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيى أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبوبكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك. وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يوما مشهودا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم، ومكث علي بن أبي طالب بمكة ثلاثا، حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، ثم هاجر ماشيا على قدميه، حتى لحقهما بقباء، ونزل على كلثوم بن الهدم. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام: الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس. وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس ـ يوم الجمعة ـ ركب بأمر الله له، وأبو بكر خلفه، وأرسل إلى بني النجار ـ أخواله ـ فجاءوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي فى بطن الوادى وكانو مائه رجل
دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة»
وبعد الجمعة دخل النبي صلي الله عليه وسلم المدينة، ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يوما تاريخيا أغر، فقد كانت البيوت والسكك ترتج بأصوات التحميد والتقديس، وكانت بنات الأنصار تتغنى بهذه الأبيات فرحا وسرورا: أشرق البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع والأنصار وإن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة؛ إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى أن ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم،عليه. فكان لايمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته: هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة، فكان يقول لهم: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوى اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلا، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها، وذلك في بني النجار ـ أخواله صلى الله عليه وسلم وكان من توفيق الله لها، فإنه أحب أن ينزل على أخواله يكرمهم بذلك، فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم، وبادر أبو أيوب الأنصارى إلى رحله، فأدخله بيته، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المرء مع رحله، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته، وكانت عنده. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب حتى بني له مسجده ومساكنه، ثم انتقل إلى مساكنه من بيت أبي أيوب، رحمة الله عليه ورضوانه قال أبو أيوب: لما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل السفل، وأنا وأم أيوب في العلو، ، فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل، فقال: يا أبا أيوب إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله وكنا فوقه في المسكن، فلقد انكسر حب لنا (أي إناء) فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها، ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء يؤذيه قال: وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث به إليه، فإذا رد علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده، فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة. وبعد أيام وصلت إليه زوجته سودة، وبنتاه فاطمة وأم كلثوم، وأسامة بن زيد، وأم أيمن، وخرج معهم عبدالله بن أبي بكر بعيال أبي بكر ومنهم عائشة، وبقيت زينب عند أبي العاص لم يمكنها من الخروج حتى هاجرت بعد بدر. قال ابن اسحاق :وتلاحق المهاجرون إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم ولم يبق بمكة منهم أحد إلا مفتون أو محبوس.
بناء المسجد النبوي»
وأول خطوة خطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك هو إقامة المسجد النبوي. ففى المكان الذي بركت فيه ناقته أمر ببناء هذا المسجد واشتراه من غلامين يتيمين كانا يملكانه، وساهم في بنائه بنفسه، فكان ينقل اللبن والحجارة ويقول: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة وكان يقول: هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابة في البناء حتى إن أحدهم ليقول: لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل وكانت في ذلك المكان قبور المشركين، وكان فيه خرب ونخل وشجرة من غرقد، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنشبت، وبالخرب فسويت، وبالنخل والشجرة فقطعت، وصفت في قبلة المسجد، وكانت القبلة إلى بيت المقدس، وجعلت عضادتاه (أي عموداه) من حجارة، وأقيمت حيطانه من الطوب اللبن والطين، وجعل سقفه من جريد النخل، وعمده الجذوع، وفرشت أرضه من الرمال والحصباء (أي الحجارة) وجعلت له ثلاثة أبواب، وطوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، والجانبان مثل ذلك أو دونه، وكان أساسه قريبا من ثلاثة أذرع. وبنى بيوتا إلى جانبه، وسقفها بالجريد والجذوع، وهي حجرات أزواجه صلى الله عليه وسلم، وبعد تكامل الحجرات انتقل إليها من بيت أبي أيوب. ولم يكن المسجد موضعا لأداء الصلوات فحسب، بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تلتقي وتتآلف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما باعدت بينها النزعات الجاهلية وحروبها، وقاعدة لإدارة جميع الشئون وبث الانطلاقات، وبرلمانا لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية.
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
»
وكما قام النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد مركز التجمع والتآلف؛ قام بعمل آخر من أروع ما يحفظه التاريخ، وهو عمل المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. قال ابن القيم: ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلا نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله عز وجل {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } [ 75:8] رد التوارث دون عقد الاخوة. وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقدا نافذا، لا لفظا فارغا، وعملا يرتبط بالدماء والأموال لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر. وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال. فقد روى البخاري أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا، فاقسم مالي نصفين، ولى امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي، أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، وأين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط (طعام من لبن الإبل) وسمن، ثم تابع الغدو، ثم جاء يوما وبه أثر صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مهيم ؟ (كلمة يمانية معناها ما الذي أرى بك) قال: تزوجت. قال: كم سقت إليها؟ قال: نواة من ذهب. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: لا، فقالوا: فتكفونا المؤنة، ونشرككم في الثمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا. وهذا يدلنا على ما كان عليه الأنصار من الحفاوة البالغة بإخوانهم المهاجرين، ومن التضحية والإيثار والود والصفاء وما كان عليه المهاجرون من تقدير هذا الكرم حق قدره، فلم يستغلوه ولم ينالوا منه إلا بقدر ما يحفظ حياتهم. وحقا فقد كانت هذه المؤاخاة حكمة فذة، وسياسة صائبة حكيمة، وحلا رائعا لكثير من المشاكل التي كان يواجهها المسلمون، والتي أشرنا إليها. وكما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقد المؤاخاة بين المؤمنين قام بعقد معاهدة أزاح بها كل ما كان من حزازات الجاهلية والنزعات القبلية، ولم يترك مجالا لتقاليد الجاهلية، وهاك بنودها ملخصا: هذا كتاب من محمد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم: 1 ـ أنهم أمة واحدة من دون الناس. 2 ـ المهاجرون من قريش على ربعتهم (أي حالتهم التي وجدها عليهم الإسلام) يتعاقلون بينهم (أي يعقل بعضهم عن بعض، والعقل: الدية) وهم يفدون عانيهم (أي أسيرهم) بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وكل قبيلة من الأنصار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 3 ـ وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم (أي المثقل بالدين) أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل(أي دية). 4 ـ وأن المؤمنين المتقين على من بغى عليهم، أو ابتغى ظلما (أي طلب إتاوة بالظلم) أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين. 5 ـ وأن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم. 6 ـ ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر. 7 ـ ولا ينصر كافرا على مؤمن. 8 ـ وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم. 9 ـ وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم. 10 ـ وأن سلم المؤمنين واحدة، ولا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم. 11ـ وأن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله (البواء: المساواة، والمقصود أنهم يد واحدة يثأرون لبعضهم). 12 ـ وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن. 13 ـ وأنه من اعتبط مؤمنا قتلا (أي قتله بلا جناية) عن بينة فإنه قود به (أي عليه الدية) إلا أن يرضى ولي المقتول. 14 ـ وأن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه. 15 ـ وأنه لا يحل لمؤمن أن ينصر محدثا (أي مجرما) ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. 16 ـ وأنكم مهما اختلفتم فيه من شئ فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.
خبر الآذان »
لما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين، واجتمعت كلمة الأنصار، استحكم أمر الإسلام فقامت الصلاة، وفرضت الزكاة والصيام وقامت الحدود، وفرض الحلال والحرام. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها أن يجعل بوقا كبوق يهود الذي يهرعون به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة. فبينما هم على ذلك إذ رأى عبدالله بن زيد بن ثعلبة أخو بلحارث بن الخزرج في منامه الآذان، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله إنه طاف بي هذه الليلة طائف، مر بي رجل عليه ثوبان أخضران، يحمل ناقوسا في يده، فقلت له: يا عبدالله، أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قلت: وما هو؟ قال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح. الله أكبر، الله أكبر. لا إله إلا الله. فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها، فإنه أندى صوتا منك، فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه، وهو يقول: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد علي ذلك.
التهيؤ لفتح مكة ومحاولة الإخفاء»
روى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عائشة ـ قبل أن يأتي إليه خبر نقض قريش للميثاق بثلاثة أيام ـ أن تجهز أدوات الحرب الخاصة به، ولا يعلم أحد، فدخل عليها أبو بكر، فقال: يا بنية ما هذا الجهاز؟ قالت: والله ما أدري. فقال: والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله؟ قالت: والله لا علم لي. وفي صباح اليوم الثالث جاء عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا، واستنجد برسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل ثم أبو سفيان وتأكد عند الناس الخبر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. وزيادة في الإخفاء والتعمية، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قوامها ثمانية رجال تحت قيادة أبي قتادة بن ربعي إلى بطن أضم فيما بين ذي خشب وذي المروة على ثلاثة برد (البريد: اثنا عشر ميلا تقريبا) من المدينة، في أول شهر رمضان سنة 8 هـ ليظن الظان أنه صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار، وواصلت هذه السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة، فسارت إليه حتى لحقته. وحدث أن كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش كتابا يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها مالا على أن تبلغه قريشا، فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليا والمقداد، فقال: انطلقا حتى تأتيا روضة خاخ، فإن بها ظعينة (أي مسافرة) معها كتاب إلى قريش، فانطلقا تعادي بهما خيلهما حتى وجدا المرأة بذلك المكان، فاستنزلاها، وقالا: معك كتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، ففتشا رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها علي: أحلف بالله، ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهما، فأتيا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: (من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش) يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا، فقال: ما هذا يا حاطب؟ فقال:لا تعجل علي يا رسول الله، والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرءا ملصقا في قريش، لست من أنفسهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك لهم قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا (أي معروفا) يحمون بها قرابتي، فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه قد شهد بدرا، و ما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فذرفت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم. وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيئهم للزحف والقتال.
الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة»
لعشر ليال خلون من شهر رمضان المبارك سنة 8هـ غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة متجها إلى مكة، في عشرة آلاف من الصحابة رضي الله عنهم، واستخلف على المدينة أبا رهم الغفاري. ولما كان بالجحفة أو فوق ذلك لقيه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلما مهاجرا، ثم لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث وابن عمته عبدالله بن أبي أمية، فأعرض عنهما؛ لما كان يلقاه منهما من شدة الأذى، فقالت له أم سلمة: لايكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك، وقال علي لأبي سفيان بن الحارث: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين} فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا،ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} فأنشده أبو سفيان أبياتا منها: لعمرك إني حين أحمل راية لتغلب خيل اللات خيل محمد لكالمدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني حين أهدى فأهتدي هداني هاد غير نفسي ودلني على الله من طردت كل مطرد (المدلج: السائر ليلا) فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: أنت طردتني كل مطرد! وقد حسن إسلام أبي سفيان بن الحارث بعد ذلك، ويقال إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حياء منه. وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ ماء الكديد فأفطر وأفطر الناس معه، ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران عشاء، فأمر الجيش فأوقدوا النار، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وركب العباس ـ بعد نزول المسلمين بمر الظهران ـ بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وخرج يلتمس لعله يجد بعض الحطابة أو أحدا يخبر قريشا؛ ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها.
الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل مكة »
مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه لدخول مكة حتى انتهى إلى ذي طوى، وكان يخفض رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن شعر لحيته ليكاد يمس راحلته، وهناك وزع جيشه، وكان خالد بن الوليد على ميمنة الجيش ـ وفيها قبائل أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب ـ فأمره أن يدخل مكة من أسفلها، وقال: إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدا، حتى توافوني على الصفا. وكان الزبير بن العوام على الميسرة، وكان معه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يدخل مكة من أعلاها من ناحية كداء، وأن يغرز رايته بالحجون، ولا يبرح حتى يأتيه. وكان أبو عبيدة على المشاة والحسر (وهم الذين لا سلاح معهم) فأمره أن يأخذ بطن الوادي، حتى يدخل مكة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على الطريق التي كلفت الدخول منها، فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من المشركين إلا قتلوه، وقتل من أصحابه من المسلمين كرز بن جابر الفهري وخنيس بن خالد بن ربيعة، كانا قد شذا عن الجيش، وسلكا طريقا غير طريقه فقتلهما المشركون، وقابل خالد وأصحابه سفهاء قريش الذين تجمعوا لحرب المسلمين بالخندمة فقتلوا من المشركين اثني عشر رجلا فانهزم المشركون، وانهزم حماس بن قيس ـ الذي كان يعد السلاح لقتال المسلمين ـ حتى دخل بيته، فقال لامرأته أغلقي علي بابي، فقالت: وأين ما كنت تقول ؟ فقال: إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة واستقبلتنا بالسيوف المسلمة يقطعن كل ساعد وجمجمة ضربا فلا يسمع إلا غمغمة لهم نهيت خلفنا وهمهمه لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه (الغمغمة والهمهمة: الصوت غير المفهوم، يعني أصوات أبطال المسلمين في القتال، والنهيت: الزئير) وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا. وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون عند مسجد الفتح، وضرب له هناك قبة، فلم يبرح حتى جاءه رسول الله
الرسول يطهر المسجد الحرام من الأصنام ويعفو عن القرشيين
»
نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه (استلم الحجر يعني لمسه وبدأ الطواف من عنده) ثم طاف بالبيت وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} {جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد}. والأصنام تتساقط على وجوهها. عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته فطاف عليها، وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يشير بقضيب في يده إلى الأصنام ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع. وكان طوافه على راحلته، ولم يكن محرما يومئذ، فاقتصر على الطواف، فلما أكمل الطواف دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففتحت، فدخلها، فرأى فيها الصور، ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ـ يستقسمان بالأزلام (الأزلام سهام كانوا يستشيرون الأصنام بعمل قرعة بينها، والاستقسام أصلا الحلف) فقال: قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قط، ورأى في الكعبة حمامة من عيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصور فمحيت. ثم أغلق الرسول صلى الله عليه وسلم باب الكعبة عليه وعلى أسامة وبلال، ثم صلى هناك، ثم دار في البيت وكبر في نواحيه، ووحد الله، ثم فتح الباب، وقريش قد ملأت المسجد صفوفا ينتظرون ماذا يصنع. وكان الباب مرتفعا عن الأرض قليلا، فوقف وأمسك بجانبي الباب وهم تحته، فقال: لاإله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدمي (المأثرة: ما كان العرب يفتخرون به ويتخذونه وسيلة للتكبر) ، إلا سدانة البيت (أي خدمة البيت الحرام) وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد ـ ما كان بالسوط والعصا ـ ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة (أي فخر) الجاهلية وتعاظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: (يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير). ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: (لا تثريب عليكم اليوم) اذهبوا فأنتم الطلقاء.
رد الأمانات وإعلان شعار الإسلام
»
جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد بعد أن أعلن العفو العام ، فقام إليه علي رضي الله عنه، ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا (أي لبني هاشم) الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال له: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء. وروي أنه قال له حين دفع المفتاح إليه: خذوها يا بني شيبة خالدة مخلدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم. وقال أيضا: يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف. وحانت الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يصعد فيؤذن على الكعبة، وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه، فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته، فقال أبو سفيان: أما والله لا أقول شيئا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: لقد علمت الذي قلتم، ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ دار أم هانئ بنت أبي طالب، فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها، وكان ضحى، فظنها من ظنها صلاة الضحى، وإنما هذه صلاة الفتح. وأجارت أم هانئ حموين لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما، فأغلقت عليهما باب بيتها، وسألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنهما، فقال لها ذلك.
خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني من الفتح»
لما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ومجده بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماء أو يعضد بها شجرة (أي يقطع) فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي إن قال أحد سأقاتل في مكة مثلما قاتل فيها الرسول) فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما حلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب
سرية ذات السلاسل
»
لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بموقف القبائل العربية التي تقطن مشارف الشام في معركة مؤتة، من اجتماعهم إلى الرومان ضد المسلمين، شعر بمسيس الحاجة إلى القيام بعمل حكيم يوقع الفرقة بينها وبين الرومان، وتكون سببا للائتلاف بينها وبين المسلمين، حتى لا تحتشد مثل هذه الجموع الكبيرة مرة أخرى. واختار لتنفيذ هذه الخطة عمرو بن العاص ؛ لأن أم أبيه كانت امرأة من بلي، فبعثه إليهم في جمادي الآخرة سنة 8 هـ على إثر معركة مؤتة ليستألفهم ويستميلهم، وفي ذات الوقت نقلت الاستخبارات أن جمعا من قضاعة قد تجمعوا، يريدون أن يدنوا من أطراف المدينة، فأصبحت الحاجة أشد لبعث عمرو بن العاص إليهم. وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص لواء أبيض وجعل معه راية سوداء، وبعثه في ثلاثمائة من سراة (أي أشراف) المهاجرين والأنصار، ومعهم ثلاثون فرسا، وأمره أن يستعين بمن مر به من بلي وعذرة وبلقين، فسار الليل وكمن النهار، فلما قرب من القوم بلغه أن لهم جمعا كثيرا، فبعث رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده (أي يطلب منه مددا) فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في مائتين وعقد له لواء، وبعث له سراة من المهاجرين والأنصار ـ فيهم أبو بكر وعمر ـ وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعا ولا يختلفا، فلما لحق به أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس، فقال عمرو: إنما قدمت علي مددا، وأنا الأمير، فأطاعه أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس. وسار حتى وطئ بلاد قضاعة، فدوخها حتى أتى أقصى بلادهم، ولقي في آخر ذلك جمعا، فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا. وبعث عوف بن مالك الأشجعي بريدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بعودتهم وسلامتهم، وما كان في غزاتهم. وسميت الغزوة بذات السلاسل نسبة للمكان الذي نزل به المسلمون، بينه وبين المدينة مسيرة عشرة أيام.
أبو بكر أمير على الحج في العام التاسع للهجرة»
وفي ذي القعدة أو ذي الحجة من السنة التاسعة للهجرة، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج، ليقيم بالمسلمين المناسك. ثم نزلت أوائل سورة براءة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ليبلغ الناس الأحكام التي جاءت فيها، وذلك تمشيا منه على عادة العرب في عهود الدماء والأموال، فالتقى علي بأبي بكر ببعض الطريق، فقال أبو بكر:أمير أو مأمور؟ قال علي:لا بل مأمور، ثم مضيا، وأقام أبو بكر للناس حجهم، حتى إذا كان يوم النحر، قام علي بن أبي طالب عند الجمرة، فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. عن زيد بن يفيع قال: سألنا عليا بأي شيء بعثت في الحجة؟ قال: بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع مسلم وكافر في المسجد الحرام بعد عامه هذا، ومن كان بينه وبين النبي عهد فعهده إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله إلى أربعة أشهر. وبعث أبو بكر رضي الله عنه رجالا ينادون في الناس: ألا لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وكان هذا النداء بمثابة إعلان نهاية الوثنية في جزيرة العرب، وأنها لا تبدئ ولا تعيد بعد هذا العام. اله إلي الرفيق الأعلى
حجة الوداع»
تمت أعمال الدعوة وإبلاغ الرسالة وبناء مجتمع جديد، على أساس إثبات الألوهية لله ونفيها عن غيره، وعلى أساس رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وكأن هاتفا خفيا انبعث في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشعره أن مقامه في الدنيا قد أوشك على النهاية، حتى إنه حين بعث معاذا على اليمن سنة 10 هـ قال له فيما قال: يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري، فبكى معاذ جزعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وشاء الله أن يرى رسوله ثمار دعوته، التي عانى في سبيلها ألوانا من المتاعب بضعا وعشرين عاما، فيجتمع في أطراف مكة بأفراد قبائل العرب وممثليها، فيأخذوا منه شرائع الدين وأحكامه، ويأخذ منهم الشهادة على أنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة ونصح الأمة. فلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو القعدة تجهز للحج، وأمر الناس بالجهاز له، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج لخمس ليال بقين من ذى القعدة. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجه، فأرى الناس مناسكهم، وأعلمهم سنن حجهم، وخطب في الناس خطبته التي ضمنها أواخر وصاياه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس اسمعوا قولى: فإني لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدا، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت؛ فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل ربا موضوع (وضع عنه الدين والدم وجميع أنواع الجناية أي أسقطه عنه) ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أنه لا ربا وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله، وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ـ وكان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل ـ فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية. أما بعد، أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم. أيها الناس، إن النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليوطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله. وإن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم: ثلاثة متوالية، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. أما بعد أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح (أي غير شديد) فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن، عندكم عوان (أي أسيرات) لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله. فاعقلوا أيها الناس قولى فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بينا: كتاب الله وسنة نبيه. أيها الناس، اسمعوا قولى واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟". فذكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد. وبعد أن فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من إلقاء الخطبة نزل عليه قوله تعالى:{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}. وعندما سمعها عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان. ويقال إن عدد المسلمين الذين أدوا حجة الوداع مائة وأربعة وعشرون ألفا، أو مائة وأربع وأربعون ألفا.
آخر البعوث»
كانت كبرياء دولة الروم على الإسلام قد جعلتها تأبى عليه حق الحياة، وحملها ذلك على أن تقتل من أتباعها من يدخل فيه، كما فعلت بفروة بن عمرو الجذامي الذي كان واليا على معان من قبل الروم، فقد غضبوا عليه وسجنوه، ثم حكموا عليه بالقتل فأعدموه، ثم صلبوه وتركوه مصلوبا ليرهب غيره أن يسلك مسلكه. ونظرا إلى هذه الجراءة والغطرسة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهز جيشا كبيرا في صفر سنة 11 هـ، وأمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يبغي بذلك إرهاب الروم، وإعادة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا يحسبن أحد أن بطش الكنيسة لا معقب له، وأن الدخول في الإسلام يجر على أصحابه الهلاك فحسب. وتكلم الناس في قائد الجيش لحداثة سنه، واستبطأوا في بعثه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان خليقا للإمارة (أي جديرا) وإن كان من أحب الناس إلي، وإن هذا من أحب الناس إلى بعده. وأطاع الناس أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا يلتفون حول أسامة، وينتظمون في جيشه، حتى خرجوا ونزلوا الجرف، على فرسخ من المدينة (الفرسخ ثلاثة أميال تقريبا) إلا أن الأخبار المقلقة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرهتهم على التريث، حتى يعرفوا ما يقضي الله به، وقد قضى الله أن يكون هذا أول بعث في خلافة أبي بكر الصديق.
ابتداء شكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم»
لما تكاملت الدعوة، وسيطر الإسلام على الموقف، أخذت طلائع التوديع للحياة والأحياء تطلع من مشاعره صلى الله عليه وسلم، وتنضح بعباراته وأفعاله. فقد اعتكف في رمضان من السنة العاشرة عشرين يوما، بينما كان لا يعتكف إلا عشرة أيام فحسب، وتدارسه جبريل القرآن مرتين، وقال في حجة الوداع: إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا، وقال وهو عند جمرة العقبة: خذوا عني مناسككم لعلي لا أحج بعد عامي هذا، وأنزلت عليه سورة النصر في أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع، وأنه نعيت إليه نفسه. وفي أوائل صفر سنة 11 هـ خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، فصلى على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرطكم (فرط القوم: تقدمهم إلى موضع الماء ليجهزه لهم) وإني شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها. وخرج في منتصف إحدى الليالي إلى البقيع فاستغفر للأموات، وقال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى، وبشرهم قائلا: إنا بكم للاحقون. وفي اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر سنة 11 هـ ـ وكان يوم الاثنين ـ شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة في البقيع، فلما كان في طريق الرجوع أخذه صداع في رأسه، واتقدت الحرارة، حتى إنهم كانوا يجدون شدتها فوق العصابة التي تعصب بها رأسه. وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض أحد عشر يوما، وجميع أيام المرض كانت ثلاثة عشر أو أربعة عشر يوما.
الأسبوع الأخير في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم»
ثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض، فجعل يسأل أزواجه: أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟ ففهمن مراده فأذن له يكون حيث شاء، فانتقل إلى عائشة، يمشي بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب، عاصبا رأسه تخط قدماه حتى دخل بيتها، فقضى عندها آخر أسبوع من حياته. وكانت عائشة تقرأ بالمعوذات والأدعية التي حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تنفث على نفسه (النفث: إخراج بعض الريق من الفم عن طريق النفخ) وتمسحه بيده رجاء البركة. ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة اتقدت حرارة العلة في بدنه صلى الله عليه وسلم، فقال: هريقوا علي سبع قرب (جمع قربة) من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم، فأقعدوه في مخضب (أي طست) وصبوا عليه الماء، حتى طفق يقول، "حسبكم، حسبكم" وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد وهو معصوب الرأس حتى جلس على المنبر، وخطب الناس ـ والناس مجتمعون حوله ـ فقال صلى الله عليه وسلم: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وقال صلى الله عليه وسلم: لا تتخذوا قبري وثنا يعبد. وعرض نفسه للقصاص قائلا "من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه (أي فليقتص) ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه". ألا وإن الشحناء (أي العداوة والبغضاء) ليست من طبعي ولا من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقا إن كان له، أو أحلني منه فلقيت الله وأنا طيب النفس. ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها، فقال رجل: إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال أعطه يا فضل. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، من كان عنده شيء فليؤده، ولا يقل: فضوح الدنيا، ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة! فقام رجل فقال: يا رسول الله عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله، قال: ولم غللتها؟ قال: كنت محتاجا، قال: خذها منه يا فضل. ثم قال: أيها الناس، من خشي من نفسه شيئا فليقم أدع له. فقام رجل فقال: يا رسول الله، إني لكذاب، إني لفاحش، إني لنئوم (أي كثير النوم) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم ارزقه صدقا وإيمانا وأذهب عنه النوم. ثم قام رجل آخر فقال: يا رسول الله، إني لكذاب، وإني لمنافق، وما من شيء إلا قد جنيته. فقام عمر بن الخطاب فقال له: فضحت نفسك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن الخطاب، فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقا وإيمانا وصير أمره إلى خير. ثم أوصى بالأنصار قائلا: "أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي (أي موضع سري وأمانتي) وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم". ثم قال "إن عبدا خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده فاختار ما عنده". قال أبو سعيد الخدري: فبكى أبو بكر قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول:فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن آمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر. ويوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام، قال صلى الله عليه وسلم وقد اشتد به الوجع: هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ـ وفي البيت رجال فيهم عمر ـ فقال عمر: قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا عني. وأوصى ذلك اليوم بثلاث، أوصى بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، أما الثالث فنسيه الراوي، ولعله الوصية بالاعتصام بالكتاب والسنة، أو تنفيذ جيش أسامة، أو هي "الصلاة وما ملكت أيمانكم". والنبي صلى الله عليه وسلم مع ما كان به من شدة المرض كان يصلي بالناس جميع صلواته حتى ذلك اليوم ـ يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام ـ وقد صلى بالناس ذلك اليوم صلاة المغرب، فقرأ فيها بالمرسلات عرفا. وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد، قالت عائشة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصلى الناس؟ قلنا: لا يا رسول الله وهم ينتظرونك، قال: ضعوا لي ماء في المخضب (أي الطست) ففعلنا، فاغتسل فذهب لينوء (أي لينهض بجهد ومشقة) فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ ووقع ثانيا وثالثا ما وقع في المرة الأولى، من الاغتسال ثم الإغماء حينما أراد أن ينوء، فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلى أبوبكر تلك الأيام سبع عشرة صلاة في حياته. عن عائشة قالت: لما استعز رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي اشتد عليه مرضه) قال: " مروا أبا بكر فليصل بالناس ". قلت: يا نبي الله! إن أبا بكر رجل رقيق، ضعيف الصوت كثير البكاء إذا قرأ القرآن، قال:" مروه فليصل بالناس ". فعدت بمثل قولى، إلا أني كنت أحب أن يصرف ذلك عن أبى بكر، وعرفت أن الناس لا يحبون رجلا قام مقامه أبدا، وأن الناس سيتشاءمون به في كل حدث كان، فكنت أحب أن يصرف ذلك عن أبي بكر. عن عبدالله بن زمعة بن الأسود بن المطلب قال: لما استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده في نفر من المسلمين، دعاه بلال إلى الصلاة فقال: " مروا من يصلى بالناس ". فخرجت فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائبا، فقلت: قم يا عمر فصل بالناس، فقام، فلما كبر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته ـ وكان عمر رجلا مجهرا (أي شديد الصوت) ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون!" فبعث إلى أبى بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس. قال عبدالله بن زمعة قال لي عمر: ويحك!! ماذا صنعت بي يا ابن زمعة ؟ والله ما ظننت حين أمرتنى إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس، قلت: والله ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكني حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس. ويوم السبت أو الأحد وجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ (أي فأشار) إليه بأن لا يتأخر، قال: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمع الناس التكبير. وقبل يوم من الوفاة ـ يوم الأحد ـ أعتق النبي صلى الله عليه وسلم غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل استعارت عائشة الزيت للمصباح من جارتها، وكانت درعه صلى الله عليه وسلم مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من الشعير.
آخر يوم من حياته صلى الله عليه وسلم»
روى أنس بن مالك أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر يوم الاثنين ـ وأبو بكر يصلي بهم ـ لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه؛ ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، فقال أنس: وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.ثم لم يأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى. ولما ارتفع الضحى، دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة فسارها بشئ فبكت، ثم دعاها فسارها بشئ فضحكت، قالت عائشة: فسألنا عن ذلك ـ أي فيما بعد ـ فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه، فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه، فضحكت. وبشر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بأنها سيدة نساء العالمين. ورأت فاطمة ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه، فقالت: واكرب أبتاه، فقال لها صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم. ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيرا ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن. وطفق الوجع يشتد ويزيد، وقد ظهر أثر السم الذي أكله بخيبر، حتى كان يقول: يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري (الأبهر: شريان بالقلب) من ذلك السم. وأوصى الناس، فقال: "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم" كرر ذلك مرارا.
الاحتضار»
حين بدأ احتضار النبي صلى الله عليه وسلم أسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري (السحر: الرئة، والنحر: أعلى الصدر) وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل عبدالرحمن بن أبي بكر وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت آخذه لك؟ فأشار صلى الله عليه وسلم برأسه أن نعم، فلينته، وبين يديه ركوة (أي إناء) فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه، يقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات. وما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو إصبعه، وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول: مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى. كرر الكلمة الأخيرة ثلاثا،وماتت يده (يعني سقطت) ولحق بالرفيق الأعلى. إنا لله وإنا إليه راجعون. وقع هذا الحادث حين اشتدت الضحى من يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول في السنة الحادية عشرة هـ. وقد تم له ثلاث وستون سنة وزادت أربعة أيام.
حزن الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم»
تسرب النبأ الفادح وأظلمت على المدينة أرجاؤها وآفاقها. قال أنس: ما رأيت يوما قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يوما كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت فاطمة تنعاه: يا أبتاه أجاب رباه دعاه، يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه. ووقف عمر بن الخطاب ـ وقد أخرجه الخبر عن وعيه ـ يقول: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات. و والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات. وأقبل أبو بكر بعدما سمع الخبر على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمم (أي قصد) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة (ثوب من ثياب اليمن) فكشف عن وجهه، ثم قبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها. ثم خرج أبو بكر وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبي عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان منكم يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} قال ابن عباس:والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها. قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرفت حتى ماتقلنى (أي ما تحملني) رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات
دفن الرسول صلى الله عليه وسلم»
•
وتأخر دفن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حتى تم اختيار الخليفة الأول للمسلمين، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، باتفاق المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة. وشغل الناس عن تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم للدفن حتى كان آخر الليل ـ ليلة الثلاثاء ـ مع الصبح، بقي جسده المبارك على فراشه، مغشي بثوب حبرة، قد أغلق دونه الباب أهله. ويوم الثلاثاء غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يجردوه من ثيابه، وكان القائمون بالغسل العباس وعليا والفضل وقثم ابني العباس، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسامة بن زيد، وأوس بن خولي، فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعلى يغسله، وأوس أسنده إلى صدره. ثم كفنوه في ثلاثة أثواب بيض سحولية (سحول قرية باليمن تصنع الثياب) من كرسف (أي قطن) ليس فيها قميص ولا عمامة، أدرجوه فيها إدراجا. واختلفوا في موضع دفنه، فقال أبو بكر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض، فرفع أبو طلحة فراشه الذي توفي عليه، فحفر تحته، وجعل القبر لحدا. ودخل الناس الحجرة أرسالا (أي جماعات) عشرة فعشرة، يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤمهم أحد، وصلى عليه أولا أهل عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، وصلت عليه النساء بعد الرجال، ثم صلى عليه الصبيان. ومضى في ذلك يوم الثلاثاء كاملا، حتى دخلت ليلة الأربعاء، قالت عائشة: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي (جمع مسحاة، وهي مجرفة من حديد) من جوف الليل من ليلة الأربعاء.
من صفاته وأخلاقه صلى الله عليه وسلم»
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز من جمال خلقه وكمال خلقه بما لا يحيط بوصفه البيان، وكان من أثره أن القلوب فاضت بإجلاله، والرجال تفان وا في حياطته وإكباره، بما لا تعرف الدنيا لرجل غيره، فالذين عاشروه أحبوه إلى حد الهيام، ولم يبالوا أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر. وصدق فيه قول الشاعر: خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدل الطول، فلم يكن قصيرا، ولم يكن طويلا طولا مفرطا، وكانت بشرته بيضاء مشربة بحمرة، عيونه سوداء واسعة، جفونه طويلة الشعر. وكان مستدير الوجه، سواء البطن والصدر، عريض الصدر، عظيم رءوس العظام كالمرفقين والكتفين والركبتين، مع تناسب ذلك مع باقي أعضاء جسمه. قالت أم معبد الخزاعية ضمن ما قالت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهي تصفه لزوجها، حين مر بخيمتها مهاجرا ـ: ظاهر الوضاءة، أبلج (أي مضيء) الوجه، حسن الخلق، إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأحلاهم من قريب، حلو المنطق، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره. وقال علي بن أبي طالب ـ وهو ينعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس كفا، وأجرأ الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وأوفي الناس ذمة، وألينهم عريكة (أي سلس المعاملة) وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة (أي فجاة) هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته (يعني كل من يصفه): لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم. وقال البراء: كان أحسن الناس وجها، وأحسنهم خلقا. وسئل: أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر. وقالت الربيع بنت معوذ: لو رأيته رأيت الشمس طالعة. وقال أبو هريرة: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدا أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنما الأرض تطوي له، وإنا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث. وقال كعب بن مالك: كان إذا سر استنار وجهه، حتى كأنه قطعة قمر. وعرق مرة وهو عند عائشة، فجعلت تبرق أسارير وجهه، فتمثلت له بقول أبي كبير الهذلي. وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل (أسرة وجهه: أي محاسن وجهه والخدان والوجنتان، والعارض: السحاب) وكان أبو بكر إذا رآه يقول: أمين مصطفى بالخير يدعو كضوء البدر زايله الظلام وكان عمر ينشد قول زهير في هرم بن سنان: لو كنت من شئ سوى البشر كنت المضئ ليلة البدر ثم يقول: كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان إذا غضب احمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجنتيه حب الرمان وقال جابر بن سمرة: كان لا يضحك إلا تبسما، وكنت إذا نظرت قلت: أكحل العينين، وليس بأكحل. قال ابن العباس: كان إذا تكلم رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه. وقال أنس: ما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كف النبي صلى الله عليه وسلم، وما شممت عنبرا قط ولا مسكا ولا شيئا أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو جحيفة: أخذت بيده، فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك. وقال أنس:كأن عرقه اللؤلؤ. وقالت أم سليم: هو من أطيب الطيب. وقال جابر: لم يسلك طريقا فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرفه (أي رائحته). أما عن كمال النفس ومكارم الأخلاق، فهذا ما لا سبيل للإحاطة به، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، وكان من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلاسة طبع، ونصاعة لفظ، وجزالة (أي فصاحة) قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، اجتمعت له قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي. وكان الحلم والاحتمال والعفو عند المقدرة، والصبر على المكاره، صفات أدبه الله بها، وكل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هفوة، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يزد مع كثرة الأذى إلا صبرا، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما. قالت عائشة: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم بها، وكان أبعد الناس غضبا وأسرعهم رضا. وكان من صفة الجود والكرم على ما لا يقادر قدره، كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وقال جابر: ما سئل شيئا قط فقال لا. وكان من الشجاعة والنجدة والبأس بالمكان الذي لا يجهل، كان أشجع الناس، حضر المواقف الصعبة، وفر عنه الكماة (أي الشجعان) والأبطال غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة (أي موقف جبن فيه) وحفظت عنه جولة سواه صلى الله عليه وسلم، قال علي: كنا إذا حمي البأس واحمرت الحدق (الحدق: العيون، كناية عن شدة الخوف) اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. قال أنس: فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عرى، في عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا. وكان أشد الناس حياء، قال أبو سعيد الخدري: كان أشد حياء من العذراء في خدرها (أي فراشها) وإذا كره شيئا عرف في وجهه، وكان لا يثبت نظره في وجه أحد، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل (أي أكثر) نظره الملاحظة، لا يشافه أحدا بما يكره حياء وكرم نفس، وكان لا يسمي رجلا بلغ عنه شئ يكرهه، بل يقول: ما بال أقوام يصنعون كذا وكذا، وكان أحق الناس بقول الفرزدق: يغضي حياء ويغضي من مهابته فلا يكلم إلا حين يبتسم وكان أعدل الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، اعترف له بذلك محاوروه وأعداؤه، وكان يسمى قبل نبوته الأمين، ويتحاكم إليه في الجاهلية قبل الإسلام، وروى الترمذي عن علي أن أبا جهل قال له: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله تعالى فيهم {فإنهم لايكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} وسأل هرقل أبا سفيان: هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. وكان أشد الناس تواضعا وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم، قالت عائشة: كان يخصف نعله (أي يصلح) ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشرا من البشر يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه. وكان أوفي الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدبا، وأبسط الناس خلقا، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشا، ولا متفحشا ولا لعانا، ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان لايدع أحدا يمشي خلفه، وكان لا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خدمه، ولم يقل لخادمه أف قط، ولم يعاتبه على فعل شئ أو تركه، وكان يحب المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيرا لفقره. كان في بعض أسفاره فأمر بإصلاح شاة (يعني بتجهيزها للأكل) فقال رجل: علي ذبحها وقال آخر: علي سلخها، وقال آخر: علي طبخها، فقال صلى الله عليه وسلم: وعلي جمع الحطب، فقالوا: نحن نكفيك، فقال: قد علمت أنكم تكفوني، ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه، وقام وجمع الحطب. ولنترك هند بن أبي هالة يصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال هند فيما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه ـ لا بأطراف فمه ـ ويتكلم بجوامع الكلم، فصلا (أي كلاما محددا واضحا) لا فضول فيه (الفضول: ما يمكن الاستغناء عنه) ولا تقصير، دمثا ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمة وإن دقت (أي قلت) لا يذم شيئا، ولم يكن يذم ذواقا (أي طعاما) ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشئ، حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها ـ سماحة ـ وإذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام (يصف أسنانه بأنها شديدة البياض كالسحاب) وكان يخزن لسانه (أي يكفه) إلا عما يعنيه، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره. يتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، لكل حال عنده عتاد (يعني أنه حسن التصرف في كل المواقف) لا يقصر على الحق، ولا يجاوزه إلى غيره، الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة. كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن (أي لا يميز لنفسه مكانا) إذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه؛ حتى لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، من جالسه أو أقامه لحاجته صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، وقد وسع الناس خلقه فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق متقاربين، يتفاضلون عنده بالتقوى، ويوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون (أي يعطون) ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب. كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولاعتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه (القنوط: اليأس) قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والإكثار (يعني من عرض الدنيا) وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: لايذم أحدا، ولا يعيره، ولا يطلب عورته (أي لا يسعى لفضحه) ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير (يعني شد انتباههم) وإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، ويقول: إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فارفدوه (أي أعطوه) ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ. وقال خارجة بن زيد: كان النبي صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئا من أطرافه، وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم من غير جميل، وكان ضحكه تبسما، وكلامه فصلا، لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم، توقيرا له واقتداء به. وعلى الجملة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم محلى بصفات الكمال المنقطعة النظير، أدبه ربه فأحسن تأديبه، حتى خاطبه مثنيا عليه فقال: {وإنك لعلى خلق عظيم} وكانت هذه الخلال مما قرب إليه النفوس، وحببه إلى القلوب، وصيره قائدا تهوى إليه الأفئدة، وألان من شكيمة قومه (أي ألان طباعهم) بعد الإباء حتى دخلوا في دين الله أفواجا. وهذه الخلال التي أتينا على ذكرها خطوط قصار من مظاهر كمال وعظيم صفاته، أما حقيقة ما كان عليه من الأمجاد والشمائل فأمر لا تدرك حقيقته، ومن يستطيع معرفة كنه أعظم بشر في الوجود بلغ أعلى قمة من الكمال، استضاء بنور ربه، حتى صار خلقه القرآن؟! اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد
0 التعليقات:
إرسال تعليق