حكم خطبة الجمعة
اختلف الفقهاء في حكم الخطبة لصلاة الجمعة، هل هي شرط لها فلا تصح بدونها، أو سنة فتصح الصلاة بدون خطبة؟ وذلك على قولين:
القول الأول: أن الخطبة شرط للجمعة.
وبهذا قال الحنفية [1] وجمهور المالكية وهو الصحيح عندهم [2] والشافعية [3] والحنابلة [4].
قال في الحاوي: " فهو مذهب الفقهاء كافة، إلا الحسن البصري؛ فإنه شذ عن الإجماع وقال: إنها ليست واجبة" [5].
وقال في المغني: "وجملة ذلك أن الخطبة شرط في الجمعة لا تصح بدونها... ولا نعلم فيه مخالفًا إلا الحسن" [6].
القول الثاني: أن الخطبة سنة للجمعة.
وبه قال الحسن البصري [7] [8].
وهو مروي عن الإمام مالك، وبه قال بعض أصحابه [9].
وبه قال ابن حزم [10] [11].
الأدلة:
أدلة أصحاب القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول بأدلة من الكتاب، والسنة، وآثار الصحابة والتابعين:
أولا: من الكتاب:
1- قول الله - سبحانه وتعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الجمعة: 9].
وقد اختلف السلف في المراد بذكر الله فيها على قولين: فمنهم من قال: الخطبة، ومنهم من قال: الصلاة [13] وصحَّح ابن العربي [14] أنها تشمل الجميع [15].
فعلى القول بأن المراد الخطبة تدل على وجوبها من وجهين:
الأول: أنه أمر بالسعي إليها، والأصل في الأمر الوجوب، والسعي الواجب لا يكون إلا إلى واجب [16].
الثاني: أن الله – عز وجل - أمر بترك البيع عند النداء لها، أي أن البيع يحرم في ذلك الوقت، فتحريمها للبيع دليل على وجوبها، لأن المستحب لا يحرم المباح [17].
وعلى القول بأن المراد الصلاة فإن الخطبة من الصلاة، والعبد يكون ذاكرا لله بفعله كما يكون مسبِّحا لله بفعله [18].
2 - قول الله - عز وجل -: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) الآية [19].
وجه الدلالة: أن الله - تعالى - ذمهم على الانفضاض وترك الخطبة، والواجب هو الذي يذم تاركه شرعا [20].
ثانيًا: من السنة:
1- ما رواه عبد الله [21] بن عمر - رضي الله عنهما - قال:" كان النبي – صلى الله عليه وسلم - يخطب قائما، ثم يقعد، ثم يقوم، كما تفعلون الآن " [22] [23].
2- ما رواه جابر [24] بن سمرة – رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يخطب قائما، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما، فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب، فقد صليتُ معه أكثر من ألفي صلاة" [25] [26].
وهذا الفعل دلالته ظاهرة.
مناقشة هذين الدليلين: نوقشا بأن ما ورد فيهما مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على الواجب [27].
الإجابة عن هذه المناقشة: يجاب عنها بالتسليم بذلك لو لم يكن هناك دليل غيرهما على المسألة، لكن ورد الأمر بالخطبة مجملا في قوله - تعالى -: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [28] كما تقدم، فيكون هذا الفعل بيانا لهذا الأمر المجمل، فيكون واجبا، والله أعلم.
3- ما جاء في حديث مالك [29] بن الحويرث أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) [30] [31].
وجه الدلالة:
قال غير واحد من أهل العلم: والنبي – صلى الله عليه وسلم - ما صلى الجمعة في عمره بغير خطبة [32] وقد أمرنا بالصلاة كما كان يصلي، ولو جازت الجمعة بغير خطبة لفعله ولو مرة تعليما للجواز [33].
مناقشة هذا الاستدلال: نوقش من وجهين:
الأول: أن هذا الحديث - حديث مالك بن الحويرث - لا يصلح الاستدلال به على الوجوب؛ لأنه لو قيل بذلك للزم أن يكون كثير من السنن واجبات لفعل النبي – صلى الله عليه وسلم - لها في صلاته [34].
الإجابة عن هذا الوجه: يجاب عنه بأنه يقال بذلك لو لم يكن هناك أدلة أخرى تفيد الوجوب، وتجعل هذا الفعل دالا على الوجوب كما سبق في الآيات وكما سيأتي - إن شاء الله - بالإضافة إلى المداومة.
الثاني: أن حديث مالك هذا ليس فيه إلا الأمر بإيقاع الصلاة على الصفة التي كان يوقعها عليها، والخطبة ليست بصلاة [35].
الإجابة عن هذا الوجه: يجاب عن ذلك بأن الخطبة وإن كانت ليست بصلاة فهي عمل متعلق بها ومن أجلها، ولا اعتبار له بدونها فأخذ حكمها، بالإضافة إلى أن بعض السلف - كما سيأتي إن شاء الله - قال: إن الخطبتين بدل عن ركعتين، فيكون لهما حكم الصلاة، والله أعلم.
ثالثا: من آثار الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين:
ما روي عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - قال: " الخطبة موضع الركعتين، من فاتته الخطبة صلى أربعًا " [36] وفي رواية: " إنما جُعِلَت الخطبة مكان الركعتين فإن لم يدرك الخطبة فليصل أربعًا " [37].
وجه الدلالة: دل هذا الأثر على أن الخطبتين بدل عن ركعتين من صلاة الظهر، وهما واجبتان؛ لأنهما جزء منها، فكذلك حكم بدلهما.
مناقشة هذا الدليل: يناقش من وجهين:
الأول: أن هذا الأثر منقطع السند [38] فلا يصلح للاستدلال.
الثاني: أن هذا على تقدير ثبوته قول صحابي، وهو مختلف في الاحتجاج به.
وقد نُسِبَ القول بذلك إلى عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - [39] وإلى عائشة [40] - رضي الله عنها - [41].
ويناقش بالوجه الثاني من وجهي مناقشة أثر عمر – رضي الله عنه - المتقدم.
كما قال بمثل ذلك بعض التابعين [42] ولكن قولهم ليس بحجة، فلا أطيل بذكر ذلك، وإنما أشرتُ إليه لاستدلال بعض الفقهاء به.
دليل أصحاب القول الثاني:
أن الجمعة تصح ممن لم يحضر الخطبة، ولو كانت شرطًا يجب الإتيان به لم يصح إدراك الجمعة إلا بها [43].
مناقشة هذا الدليل: قال صاحب الحاوي بعد ذكر هذا الدليل: "وهذا خطأ، ويوضحه إجماع من قبل الحسن وبعده"، ثم ناقشه بأنه غير صحيح، لأن الركعتين واجبتان بالإجماع.
ثم إنه لا يتعلق إدراك الجمعة بها، فلو أدرك ركعة صحت له بالجمعة، فكذلك الخطبة [44].
الترجيح:
الراجح في هذه المسألة - والله أعلم بالصواب - هو القول الأول القائل بأن الخطبة شرط لصحة الجمعة، لقوة أدلته، بل نقل بعضهم شبه إجماع عليه كما تقدم عن صاحب الحاوي.
___________________
[1] ينظر: المبسوط 2/23 - 24 والهداية للمرغيناني 1/83 ، وبدائع الصنائع 1/262 ، وتبيين الحقائق 1/ 219 - والفتاوى الهندية 1/146.
[2] ينظر: الإشراف 1/131 ، والتفريع 1/231 ، وبداية المجتهد 1/160 ، والقوانين الفقهية ص (86) ، والفواكه الدواني 1/306.
[3] ينظر حلية العلماء 2/276 ، والوجيز 1/63 ، والمجموع 4/513 ، 514 ، وروضة الطالبين 2/24 ، ومغني المحتاج 1/285.
[4] ينظر: الهداية لأبي الخطاب 1/52 ، وشرح الزركشي 2/173 ، والمغني 3/170 - 171 ، والفروع 2/109 ، والمحرر 1/146 ، والإنصاف 2/386.
[5] الحاوي 3/44.
[6] المغني 3/170 - 171.
[7] هو الحسن بن يسار البصري ، يكنى بأبي سعيد ، من كبار فقهاء التابعين ، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر ، قال عنه سليمان التيمي: شيخ أهل البصرة ، وكان يرسل ويدلس ، توفي سنة 120هـ. (ينظر: طبقات ابن سعد 7/156 ، وتهذيب التهذيب 2/163).
[8] وممن نقل ذلك عنه ابن قدامة في المغني 3/171 ، والماوردي في الحاوي 3/44 ، النووي في المجموع 4/514 ، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 18/114 ، وأخرج عنه ابن حزم في المحلى 5/95 قوله: " من لم يخطب يوم الجمعة صلى ركعتين على كل حال ".
[9] ينظر: الإشراف 1/131 ، وأحكام القرآن لابن العربي 4/1805 ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/114.
[10] هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي ، يكنى بأبي محمد ، أحد أئمة الظاهرية ، كان ذكيا حافظا ، وكان شافعي المذهب فانتقل إلى القول بالظاهر ، قال عنه صاعد بن أحمد: " أجمع أهل الأندلس لعلوم الإسلام " ، له مصنفات منها: المحلى ، ومراتب الإجماع، توفي سنة 456 هـ. (ينظر: تذكرة الحفاظ 3/1146 ، وشذرات الذهب 3/299).
[11] المحلى 5/57.
[12] ذكر ذلك الطبري في تفسيره 28/65 - 66 ، وابن العربي في أحكام القرآن 4/1805 ، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 18/107 ، وغيرهم.
[13] هو محمد بن عبد الله بن محمد المعافري ، الأندلسي ، المالكي ، المعروف بابن العربي ، دخل بغداد وسمع بها ، ولقي جماعة من المحدثين بالقاهرة ، ثم عاد إلى الأندلس ، وتولى قضاء أشبيلية ، له مصنفات منها: أحكام القرآن ، والمحصول في الأصول ، وتوفي سنة 543 هـ. (ينظر: الديباج المذهب ص (281) ، وشذرات الذهب 4/141).
[14] أحكام القرن 4/1805 ، ونقله عنه القرطبي في الجامع 18/114.
[15] المبسوط 2/24 ، وبدائع الصنائع 1/161 ، والحاوي 3/44 ، وشرح الزركشي على الخرقي 2/173 ، وكشاف القناع 2/31.
[16] أحكام القرآن لابن العربي 4/1805.
[17] المرجع السابق.
[18] سورة الجمعة ، جزء من الآية رقم (11).
[19] ينظر: أحكام القرآن لابن العربي 4/1810 ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/114.
[20] هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي ، العدوي ، ابن الخليفة الثاني ، أسلم مع أبيه وهو صغير ، ورده رسول الله يوم بدر لصغره ، واختلف في شهوده أحدا ، وشهد الخندق وما بعدها ، وكان شديد الاحتياط والتوقي لدينه في الفتوى ، ولم يشهد شيئا مما وقع بين الصحابة ، وتوفي سنة 73 هـ ، وقيل غير ذلك. (ينظر: أسد الغابة 3/227 ، والإصابة 4/107).
[21] البخاري الجمعة (878) ، مسلم الجمعة (861) ، الترمذي الجمعة (506) ، النسائي الجمعة (1416) ، أبو داود الصلاة (1092) ، أحمد (2/98) ، الدارمي الصلاة (1558).
[22] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجمعة - باب الخطبة قائما 1/221 ، وباب القعدة بين الخطبتين يوم الجمعة 1/223. ومسلم في صحيحه في كتاب الجمعة - باب ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة 2/589 ، الحديث رقم (861).
[23] هو جابر بن سمرة بن جنادة بن جندب بن حجير العامري ، ثم السوائي ، مولى بني زهرة ، روى عن النبي وسكن الكوفة ، وتوفي سنة 73 هـ ، وقيل غير ذلك (ينظر: أسد الغابة 1/254 ، والإصابة 1/212).
[24] مسلم الجمعة (862) ، النسائي الجمعة (1418) ، أبو داود الصلاة (1093) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1106) ، أحمد (5/100) ، الدارمي الصلاة (1559).
[25] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجمعة - باب ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة 2/589 ، الحديث رقم (862).
[26] ينظر: نيل الأوطار 3/265.
[27] سورة الجمعة آية: 9.
[28] هو مالك بن الحويرث بن أشيم بن زياد بن خشيش الليثي ، يكنى بأبي سليمان ، سكن البصرة ، وقدم على النبي في شبيبة من قومه فعلمهم الصلاة ، وأمرهم بتعليم قومهم إذا رجعوا إليهم ، وتوفي سنة 74 هـ. (ينظر أسد الغابة 4/277 ، والإصابة 3/342).
[29] البخاري الأذان (605) ، مسلم المساجد ومواضع الصلاة (674) ، الترمذي الصلاة (205) ، النسائي الأذان (635) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (979) ، أحمد (5/53) ، الدارمي الصلاة (1253).
[30] أخرجه البخاري في صحيحة في كتاب الأذان - باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة. 1/155.
[31] ينظر: المبسوط 2/24 ، وتبيين الحقائق 1/219 ، والإشراف 1/131 ، والفواكه الدواني 1/306 ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/114 ، والمغني 3/171 ، وشرح الزركشي على الخرقي 2/173 ، وكشاف القناع 2/31.
[32] ينظر المبسوط 2/42.
[33] ينظر: نيل الأوطار 3/265.
[34] المرجع السابق.
[35] أخرج ذلك عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الجمعة - باب من فاتته الخطبة 3/237 ، الأثر رقم (5485). وابن حزم في المحلى 5/58.
[36] أخرجها ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الصلوات - باب الرجل تفوتة الخطبة 2/128.
[37] ذكر ذلك محقق شرح الزركشي على الخرقي في هامشه 2/173 ، ولم أطلع على كلام عليه في كتب التخريج التي بين يدي.
[38] وممن نسبه إليه الزركشي في شرح الخرقي 2/173 ، ولم أعثر عليه فيما بين يدي من كتب الآثار.
[39] هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق ، الصديقة بنت الصديق ، تزوجها النبي قبل الهجرة بسنتين وكان عمرها ست سنين ، وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع ، وكانت من أفقه الناس وأحسنهم رأيا ، وروت عن النبي كثيرا ، وتوفيت سنة 57 هـ ، وقيل: 58 هـ. (ينظر: أسد الغابة 5/501 ، والإصابة 8/139).
[40] وممن نسبه إليها ابن قدامة في المغني 3/171 ، والزركشي في شرح الخرقي 2/173 ، ولم أعثر عليه فيما بين يدي من كتب الآثار.
[41] ومنهم عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، ومكحول وغيرهم. وأخرجه عنهم ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الصلوات - باب الرجل تفوته الخطبة 2/128 ، كما أخرجه عن إبراهيم النخعي ، وعطاء ، وسعيد بن جبير: البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الجمعة - باب وجوب الخطبة وأنه إذا لم يخطب صلى ظهرا أربعا 3/196.
[42] الحاوي 3/44.
[43] المرجع السابق.
د - عبد العزيز بن محمد بن عبد الله الحجيلان حفظه الله
0 التعليقات:
إرسال تعليق