خلال تغطيتي الصحفية لجوانب متنوِّعة من حياة الناس، لفت
انتباهي مُشكلة مشتركة حدثت وما تزال في كل المدن المحاصَرة؛ ما إن تُحاصر
المدينة حتى ينفد كل ما فيها من غذاء ودواء وموادَّ إنسانية، ثم يشتدُّ
الحصار ويتأزَّم الوضع حتى يصل الأمر بالأهالي إلى أكْل أوراق الشجر أو
سقاية أبنائهم الماء المغلي مع البهارات.
حصل كل ذلك في معضميَّة الشام ومخيَّم اليرموك، ولا يزال يَحدث في بلدتي مضايا وبقين المحاصرتين منذ 200 يوم.
هذه مُشكلة كبيرة خلقتْها ظروف الحِصار وساعد على فداحتِها بطش النظام وخلوه مِن أدنى معاني الإنسانية.
لكن هنالك مشكلة أخرى، لا تقل حجمًا عن
تلك، هي بحاجة لحلول جذرية وإلا فسوف تسبِّب في المستقبل أضرارًا بالغة في
تحطيم جيل من الناس تعرَّضوا لأسوأ حرب مرت في تاريخ العرب.
إن ما يَحدث بعد فتح طريق المساعدات إلى
هذه المناطق هو ما ينبغي تسليط الضوء عليه بعد توافد البضائع والمواد
الغذائية والخضراوات إلى أسواق هذه البلدات، ما يَحدث دائمًا هو استمرار
الجوع لدى معظم الأهالي... إنه جوع مِن نوع آخر، ربما لا يقل مرارة عن جوع
الحصار.
يتمثَّل جوهر المشكلة هنا في ندرة المال
بين أيدي الكثرة الكاثرة من المدنيين، بل وانعدامه نهائيًّا لدى البعض،
الذين يعانون الأمرَّين في شراء الخبز، ولا شيء سوى الخبز.
وفي إمكانية القارئ تصوُّر مقدار الأسى
والحرمان الذي يَشعر به من يسكن منطقة مثل الغوطة الشرقية التي تضمُّ اليوم
أكثر من 400 ألف محاصر، بإمكانه تخيُّل ما يشعر به مَن لا يَملك ثمنًا
لكيلو برغل أو أرز أو سكر، مع وجوده حاليًّا بسعر يتراوح ما بين 500 و700
ليرة.
وفي معضمية الشام كذلك،
فُتِحَ المعبر، وتدفَّقت المواد الغذائية بأسعار أغلى من أسواق دمشق بضعف
أو ضعفين، ولكنها رخيصة على أية حال لا سيما إذا قورنت بأسعارها خلال
الحصار؛ حيث وصل سعر كيلو الأرز إلى 5 آلاف ليرة.
بعد فتح المعبر صارت المواد متوفِّرة، لكن
معظم الناس البالغ عددهم 45 ألف نسمة ارتطموا كما في الغوطة الشرقية بعدم
توفر المال الكافي للشراء.
نعم؛
قد يشتري المرء خبزه اليومي، وقد تُسعفه النقود التي في جيبه في تأمين بعض
مستلزماته من الخضراوات، ولكن استمرار الحال على ما هو عليه لن يسمَح له
بملأ خزانة مطبخِه الفارغة، بالمؤونة الكافية التي سيتقوَّت عليها في
الحصار المقبل، وهو آتٍ لا محالة!
إن هذه المشكلة قد يُمكن التغلب عليها لدى
الفصائل المسلَّحة؛ حيث يوفر لهم الدعم النقدي الذي يَحصلون عليه من
الخارج تخزين مؤونة ربما تكون كافية إلى حدٍّ ما، لكنَّ الأهالي الذين لا
علاقة لهم بحمل السلاح، والذين يبلغ عددهم أضعاف المقاتلين لا يَحصُلون على
المال الذي يوفِّر لهم ثمن الخبز.
إنَّ البطالة في المناطق المحاصَرة هي
السبب في حصول هذه المشكلة؛ حيث لا يُمكن للناس هنالك إن لم يكونوا مقاتلين
أو عمال إغاثة أو عاملين في إحدى المؤسَّسات الثورية أن يجدوا لهم عملاً
يدرُّ عليهم المال؛ قليله أو كثيره.
ومن بين مئات المِهَن والحِرَف التي كانت
مُنتشرةً قبل الثورة لن تجد إلا بقايا مِهَن قليلة لا تتعدَّى أصابع
اليدين؛ كالزراعة، والحلاقة، ومحلات بيع اللحوم على سبيل المثال، حتى هذه
المِهَن لا تؤمِّن فرص عمل كافية لعشرات الآلاف من الأهالي المحجوزين في
هذه المناطق.
مشكلة البطالة
تؤدِّي إلى الفقر المُدقع، والفقر يؤدي إلى الجوع، والجوع لن يصل بنا إلا
إلى تدمير شعبنا الذي ما إن يخرج من حصار خانق حتى يدخل في آخر أشد وطأة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق